قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الأربعون

المدرسة المشَّائية: (38) ابن رشد وكتبه "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"

الفلسفة والتأويل: (6) جدل الظاهر والمؤول

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 39) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا (5): د. الفلسفة والمنطق: ليسا بدعةً. ه. النهي عن الفلسفة والمنطق: غاية الجهل و. إن غوى –بسبب الفلسفة– غاوٍ فلشيءٍ لحقها بالعَرَض لا بالذات. ز. حقيقةٌ واحدةٌ لا حقيقتين: الحقُ لا يضاد الحقَ. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.

ثانيًا: جدل الظاهر والمؤول

من التأويل تقولًا إلى التأويل برهانًا: تمهيد حول إسهام ابن رشد في تاريخ الهرمنيوطيقا العالمي

بعد أن أصدر ابن رشد فتواه بشأن شرعية تعلم الفلسفة وعلوم المنطق وتعليمهما وشرعية النظر في كتب القدماء، وبعد أن بين أن الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة المصاحبة لها بالطبع المتفقه معها بالجوهر والحقيقة، وبعد أن أوضح ابن رشد بأجلى بيان وأدق عبارة، السبب الرئيس في تكفير الفلاسفة وأنه يرجع إلى تأويلات خاطئة وقع فيها مكفرو الفلسفة والفلاسفة في العالم الإسلامي (التأويل تقولًا)، قدم لنا ابن رشد فلسفةً تأويليةً جديدةً أعدُها مساهمةً مهمةً في تاريخ الهرمنيوطيقا في العالم (التأويل برهانًا).

ابن رشد: المتمم الأعظم

إذا كان المسلمون قد أطلقوا على الفارابي لقب المعلم الثاني بعد المعلم الأول أرسطو، فإني أطلق على ابن رشد –مقترحًا– “المعلم الأول مجددًا”. أعني ابن رشد هو “المتمم الأعظم”، وليس فقط “الشارح الأكبر” لأرسطو.

إن واجبي أن أعطي وجيزًا عن هذه الفلسفة الرشدية التأويلية الجديدة، لكني سوف أقتصرُ في الحديث عن التأويل الرشدي على كتبه المؤلفة تأليفًا خالصًا، أما شروحاته على أرسطو والفلسفة المشائية فإني أقترحُ أن ابن رشد قد قدم فيها أيضًا فلسفةً تأويليةً على أرسطو، لا تجعل منه فقط “الشارحَ الأعظمَ” لأرسطو، بل وتضعه في مكانة “المتمم الأعظم” للفلسفة الأرسطية المشائية في العالم، إذ أكمل ابن رشد ما سكت عنه أرسطو من مسائل، بل لنقل أكمل المسائل التي “هرب” منها أرسطو، ولم يعالجها فكانت سبب اختلاف الشراح من بعده وعلى رأسها مسألة الخلود. كذلك أدخل ابن رشد مفهوم التأويل في المنطق وهو مفهوم لم يكن واردًا عند أرسطو. وهذه إضافة العبقرية الرشدية إلى تاريخ الفلسفة، فابن رشد –كما أقترحُ في هذه الدردشات– أضاف جديدًا إلى الفلسفة اليونانية والفلسفة الأرسطية المشائية وشرح أرسطو دون أن يتقوَّلَ عليه. وكان الفلاسفة المسلمون –دائمًا كما أقترحُ– عباقرةً مجددينَ وحكامًا عقليين مستنيرين داخل جمهورية الفلسفة الحرة، وضمن تاريخ الفلاسفة الكبار في العالم.

وسأتناول هذا الوجيز في المحاور الآتية:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. الظاهر (ما لا يؤول) والباطن (ما يؤول) في الشرع:

إذا كان النظر العقلي (الفلسفة والمنطق) واجبًا بالشرع، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع. أو عُرِّف به. فإن كان مما سكتَ عنه الشرعُ فلا تعارض هنالك. وهو بمنزلة ما سُكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيهُ بالقياس الشرعي. وإن كانتِ الشريعةُ نطقت به فلا يخلو ظاهرُ النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا. فإن كان موافقًا فلا قول هنالك. وإن كان مخالفًا طُلب تأويلُه. وظاهر الشرع –عند ابن رشد– أصناف ثلاثة:

– ظاهر لا يجوز تأويله: “ها هنا ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كافر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة”.

– ظاهر يجب تأويله: “وها هنا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وجعله إياه على ظاهره كفر. وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. ومن هذا الصِنف آية الاستواء وحديث النزول (أي المتشابهات). ولذلك قال عليه السلام في السوداء، إذ أخبرته أن الله في السماء: اعتقها فإنها مؤمنة، إذ كانت ليست من أهل البرهان”.

– ظاهر متردد بين وجوب التأويل وعدم جواز التأويل: “وها هنا صِنفٌ ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شكٌ، فيلحقه قومٌ ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله، ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء. وذلك لعواصة (لصعوبة) هذا الصنف واشتباهه. والمخطئ في هذا معذور أعني من العلماء”.

ليس يجب أنْ تُحملَ ألفاظُ الشرعِ كلها على ظاهرها، ولا أنْ تُخْرَجَ كلها عن ظاهرها بالتأويل

لقد أجمع المسلمون –كما يقرر ابن رشد– على أنه: “ليس يجب أنْ تُحملَ ألفاظُ الشرعِ كلها على ظاهرها، ولا أنْ تُخْرَجَ كلها عن ظاهرها بالتأويل. واختلفوا في المؤول منها من غير المؤول (وهو الصنف الثالث من الظاهر): فالأشاعرة مثلًا يتأولون آيةَ الاستواء وحديث النزول. والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره.

إن كل ما أدى إليه البرهانُ وخالفه ظاهر الشرع. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي

ولا يخلو ظاهر الشرع أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان أو مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا تأويل هنالك. وإن كان مخالفًا طُلب تأويلُه. إن كل ما أدى إليه البرهانُ وخالفه ظاهر الشرع. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. ما من منطوق به في الشرع مخالفٌ بظاهره لما أدى إليه البرهانُ، إلا إذا اعُتبرَ الشرعُ وتُصفحتْ سائرُ أجزائه، وُجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد”.

والسؤال الذي يعرض نفسه الآن: ما معنى التأويل؟ لكن قبل ذلك لماذا الشرع فيه الظاهر والباطن؟

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت””: الفلسفة والتأويل: (7) جدل الظاهر والمؤول.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر

الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون

الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون

الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون، الجزء الثامن والعشرون

الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون

الجزء الثاني والثلاثون، الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون

الجزء الخامس والثلاثون، الجزء السادس والثلاثون، الجزء السابع والثلاثون

الجزء الثامن والثلاثون، الجزء التاسع والثلاثون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج