علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

نحو أخلاقيات للتكنولوجيا العصبية

نعني بالتكنولوجيا العصبية (Neurotechnology) كافة التقنيات المُطَّورة لفهم الدماغ وتصور عملياته، وكذلك التحكم في وظائفه بهدف توجيهها أو إصلاحها أو تحسينها.

وعلى الرغم من أن تخطيط كهربية الدماغ (Electroencephalography) يرجع إلى ما يقرب من قرن من الزمان، إلا أن أول اختراق كبير في هذا المجال قد تحقق في العقود الأخيرة، مع بدء فحص الدماغ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (Magnetic Resonance Imaging (MRI))، إذ سمحت هذه التقنية للباحثين –من بين أمور أخرى– بتحديد مناطق الدماغ التي يتم تنشيطها أو تعطيلها أثناء أداء مهام معينة.

من ثم تطرقت التكنولوجيا العصبية إلى مجالات أخرى عادة ما تمر دون أن يلاحظها أحد، بدءًا من تطوير الأدوية لعلاج الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب أو الأرق أو اضطراب نقص الانتباه، ومرورًا بالتقنيات المُخصصة لإعادة التأهيل العصبي بعد الحوادث الدماغية الوعائية (Cerebrovascular)، ووصولًا إلى استعادة السمع باستخدام غرسات القوقعة الصناعية (Cochlear Implants).

من جهة أخرى، ليست التكنولوجيا العصبية، التي تسعى إلى كشف ألغاز الدماغ (إلى جانب علم الأعصاب Neuroscience) بمثابة تخصصٍ نوعيٍ جديد، لكنها في معية التطور السريع للذكاء الاصطناعي، تضعنا أمام عالمٍ ضخمٍ من الاحتمالات اللا نهائية، وتثير تساؤلات ضخمة حول تطبيقاتها، لا سيما حول حدود الاتحاد بين الدماغ والآلة، لدرجة أن مفاهيم مثل الحقوق العصبية (Neuro-Rights) قد بدأت تتردد بقوة لدى مراكز البحث الدولية المعنية!

حاليًا يعمل الباحثون على تطوير تطبيقات ما يُعرف بواجهات التفاعل بين الدماغ والحاسوب (الواجهات الدماغية – الحاسوبيةBrain-Computer Interfaces (BCI)) في عددٍ من المجالات غير الطبية، بما في ذلك الألعاب والواقع الافتراضي والأداء الفني والحرب والتحكم في الحركة الجوية، وتقوم شركة نيورالينك (Neuralink)، وهي شركة شارك في تأسيسها “إيلون ماسك” (Elon Musk) –على سبيل المثال لا الحصر– بتطوير غرسة دماغية للأشخاص الأصحاء للتواصل لا سلكيًا مع أي شخص لديه جهاز حاسوب وغرسة مماثلة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في سنة 2018، أطلقت وكالة مشروعات البحوث الدفاعية المتقدمة التابعة للجيش الأمريكي برنامجًا لتطوير نظام واجهة عصبية آمن ومحمول، قادر على القراءة والكتابة إلى نقاط متعددة في الدماغ في وقت واحد، والهدف الأساسي لهذا البرنامج هو إنتاج واجهة دماغية – حاسوبية مُخصصة لتطبيقات الأمن القومي بحلول سنة 2050، وبها يمكن لجندي في وحدة القوات الخاصة إرسال الأفكار واستلامها من قبل جندي آخر أو قائد وحدة، وهو شكل من أشكال التواصل المباشر من شأنه تمكين التحديثات في الوقت الفعلي والاستجابة السريعة للتهديدات.

تخيل أن جنديًا لديه جهاز حاسوب بالغ الصغر تم حقنه في مجرى دمه، ويمكن توجيهه بمغناطيس إلى مناطق معينة من دماغه، من خلال التدريب يمكن للجندي فيما بعد أن يتحكم في أنظمة الأسلحة على بعد آلاف الأميال باستخدام أفكاره فقط، ويمكن أن يؤدي تضمين حاسوب مشابه في دماغ الجندي إلى قمع خوفه وقلقه، ما يسمح له بتنفيذ المهام القتالية بكفاءة أكبر. ليس ذلك فحسب، بل يمكن أيضًا لجهاز مزود بنظام ذكاء اصطناعي أن يتحكم مباشرة في سلوك الجندي من خلال التنبؤ بالخيارات التي عليه اتخاذها في وضعه الحالي!

قد تبدو هذه الأمثلة من قبيل الخيال العلمي، لكن التكنولوجيا العصبية اللازمة لتحقيق هذا الخيال باتت قيد التطوير بالفعل، إذ تقوم الواجهات الدماغية – الحاسوبية بفك تشفير إشارات الدماغ ونقلها إلى جهاز خارجي لتنفيذ الإجراء المطلوب، ولن يكون المستخدِم في حاجة إلى أي إجراء سوى التفكير فيما يريد القيام به، وسيقوم الحاسوب بذلك نيابةً عنه.

يتم حاليًا اختبار الواجهات الدماغية – الحاسوبية على الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عصبية عضلية شديدة، لمساعدتهم على استعادة الوظائف اليومية مثل التواصل والتنقل وغيرها. على سبيل المثال، يمكن للمرضى تشغيل مفتاح الضوء من خلال تصور الإجراء وامتلاك واجهة دماغية – حاسوبية لفك تشفير إشارات أدمغتهم ونقلها إلى المفتاح، وبالمثل، يمكن للمرضى التركيز على حروف أو كلمات أو عبارات محددة على شاشة الحاسوب وتقوم الواجهات الدماغية الحاسوبية بتحريك المؤشر لتحديدها.

على أن المؤسف في الأمر أن الاعتبارات الأخلاقية لا تواكب هذه التطورات العلمية المتسارعة، فبينما يُمارس علماء الأخلاق ضغوطًا من أجل مزيد من الاستقصاء الأخلاقي في تطبيقات التكنولوجيا العصبية بصفة عامة، لم يتم النظر كاملًا في كثرة من التساؤلات العملية حول الواجهات الدماغية – الحاسوبية.

لعل أبرز هذه التساؤلات على سبيل المثال: هل تفوق فوائد الواجهات الدماغية – الحاسوبية المخاطر الكبيرة لقرصنة الدماغ وسرقة المعلومات والتحكم في السلوك؟ وهل يجب استخدام الواجهات الدماغية – الحاسوبية لكبح أو تعزيز مشاعر معينة؟ وما تأثير الواجهات الدماغية – الحاسوبية على الوكالة الأخلاقية والهوية الشخصية والصحة العقلية لمستخدميها؟ هذه التساؤلات ذات أهمية كبيرة في وقتنا الراهن، لأن مراعاة أخلاقيات استخدام هذه التكنولوجيا قبل تنفيذها يمكن أن يمنع ضررها المحتمل (وربما المؤكد). ولننظر بإيجاز في بعض المقاربات الأخلاقية المقترحة للتكنولوجيا العصبية.

مقاربة النفعية

التكنولوجيا العصبيةتُعد النفعية (أو مذهب المنفعة Utilitarianism) إحدى مقاربات معالجة التساؤلات الأخلاقية التي تثيرها تطبيقات الواجهات الدماغية – الحاسوبية، وهي بمثابة عائلة من النظريات الأخلاقية تنص في مجملها على أن عواقب أي فعل هي المعيار الوحيد للصواب والخطأ. وعلى العكس من بعض أشكال العواقبية (Consequentialism) –التي تُعد النفعية نسخة منها– مثل الأنانية أو الإيثار، يذهب النفعيون إلى أن مصالح جميع الكائنات الحية على قدم المساواة. بعبارة أخرى، يدعو مذهب المنفعة إلى الأفعال التي تعزز السعادة أو المتعة، ويرفض الأفعال التي تسبب التعاسة أو الأذى، فإذا ما تعلق الأمر باتخاذ قرارات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية عامة، فإن الفلسفة النفعية تهدف إلى تحقيق مصالح المجتمع ككل.

يختلف أنصار النفعية حول عدد من القضايا، مثل ما إذا كان ينبغي اختيار الإجراءات بناءً على نتائجها المحتملة (نفعية الفعل Act Utilitarianism)، أو ما إذا كان يجب على الفاعلين الامتثال للقواعد التي تزيد من المنفعة (نفعية القاعدة Rule Utilitarianism). ثمة خلاف أيضًا حول ما إذا كان يجب تعظيم المنفعة الكلية، أو متوسط ​​المنفعة، أو منفعة الأشخاص الأسوأ حالًا.

قد يؤدي تعزيز قدرات الجنود بالتكنولوجيا العصبية إلى تحقيق أكبر منفعة من خلال تحسين القدرات القتالية لدولة ما، وحماية الأصول العسكرية من خلال إبقاء الجنود بعيدًا، والحفاظ على الاستعدادات العسكرية. ويذهب النفعيون المدافعون عن تحسين الأداء العصبي إلى أن التقنيات الناشئة، مثل الواجهات الدماغية – الحاسوبية، مكافئة أخلاقيًا لأشكالٍ أخرى من إجراءات تحسين أداء الدماغ المقبولة على نطاق واسع. على سبيل المثال، يمكن للمنشطات مثل الكافيين تحسين سرعة معالجة الدماغ وتحسين الذاكرة.

مع ذلك يشعر بعض المُنظرين بالقلق من أن الأساليب النفعية في الواجهات الدماغية – الحاسوبية تتسم بنقاط عمياء من المنظور الأخلاقي، فعلى العكس من التطبيقات الطبية المصممة لمساعدة المرضى، صُمِّمت التطبيقات العسكرية لمساعدة الدولة على كسب الحروب، ولتحقيق هذا الهدف قد تتخطى الواجهات الدماغية – الحاسوبية الحقوق الفردية، مثل الحق في التمتع بصحة جيدة عقليًا وعاطفيًا، وهو ما يحدث بالفعل بالنسبة للجنود الذين يستخدمون أسلحة الطائرات المُسيرة من دون طيار في الحروب المعاصرة، إذ تشير الفحوص الطبية لهم إلى مستويات أعلى من التوتر العاطفي واضطرابات ما بعد الصدمة والزيجات المحطمة مقارنة بالجنود على الأرض. قد يختار الجنود روتينيًّا التضحية من أجل الصالح العام، ولكن إذا أصبح التعزيز التكنولوجي العصبي مطلبًا وظيفيًا، فقد يثير مخاوف فريدة بشأن الإكراه والاستخدام القسري!

مقاربة الحقوق العصبية

مقاربةٌ أخرى لأخلاقيات التكنولوجيا العصبية تتمثل في نزعة “الحقوق العصبية” (Neurorights)، وهو مصطلح صكه لأول مرة الباحثان السويسريان “مارسيلو إينكا” (Marcello Ienca) و”روبرتو أندورنو” (Roberto Andorno) سنة 2017 في مقالٍ لهما تحت عنوان “نحو حقوق إنسانية جديدة في عصر علم الأعصاب والتكنولوجيا العصبية” (Towards New Human Rights in the Age of Neuroscience and Neurotechnology).

تُمثل الحقوق العصبية وفقًا لهما جُملة المبادئ الأخلاقية أو القانونية أو الاجتماعية أو الطبيعية للحرية، أو الاستحقاقات المتعلقة بالمجال العقلي والدماغي للشخص، أي القواعد المعيارية الأساسية لحماية العقل والدماغ البشري والحفاظ عليهما. وتُعطي هذه النزعة الأولوية لبعض القيم الأخلاقية حتى لو لم يؤد ذلك إلى زيادة الرفاهية العامة، إذ يدافع أنصارها عن حقوق الأفراد في الحرية الإدراكية والخصوصية العقلية والسلامة العقلية والاستمرارية النفسية وغيرها.

على سبيل المثال، يمكن أن يحول الحق في الحرية الإدراكية دون التدخل غير المعقول في الحالة الذهنية للشخص، وقد يتطلب الحق في الخصوصية العقلية ضمان مساحة عقلية يكفلها ويحميها القانون، أما الحق في السلامة العقلية فيحظر العبث بالحالات العقلية للشخص بما يُسبب لها الضرر، وأخيرًا، يُوفر الحق في الاستمرارية النفسية حمايةً لقدرة الشخص على الحفاظ على إحساسٍ متماسك بهويته مع مرور الزمن.

مقاربة القدرات البشرية

التكنولوجيا العصبيةتؤكد مقاربة القدرات البشرية (Human Capabilities) على أن حماية بعض القدرات البشرية أمر حاسم لحماية كرامة الإنسان، فإذا كانت مقاربة الحقوق العصبية تعتمد على قدرة الفرد على التفكير، فإن وجهة نظر القائلين بالقدرات البشرية تضع في الحسبان نطاقًا أوسع لما يمكن أن يفعله الناس، مثل القدرة على أن يكونوا بصحة جيدة عاطفيًا وجسديًا، والتنقل بحرية من مكان إلى آخر، والتواصل مع الآخرين ومع الطبيعة، وتفعيل ملكات الحواس والخيال، والشعور بالعواطف والتعبير عنها، واللعب والابتكار، وتنظيم البيئة المحيطة، إلخ.

ربما كانت هذه المقاربة أكثر إقناعًا لأنها تُقدم صورة أقوى للإنسانية واحترام كرامة الإنسان. مع ذلك، يمكن أن تدفع بنا تطورات التكنولوجيا العصبية إلى ما يُمكن أن نسميه عتبة قياسية في القدرات، إذ نجد أنفسنا أمام قدرات بشرية جديدة تمامًا بفضل الواجهات الدماغية – الحاسوبية، وهو أمر تستلزم معالجته نشاطًا تنظيريًا أخلاقيًا لا يقل في قوته وسرعته عن قوة وسرعة مُخرجات التكنولوجيا العصبية وتطبيقاتها!

أخيرًا، ربما كان في وسعنا أن نقول إن سباق التسلح النووي لم يعد التهديد الوحيد الأقوى لعالمنا المعاصر، فالأخطر والأكثر قوة تلك المشكلات الأخلاقية التي أثارتها تطورات التكنولوجيا غير العسكرية، والتي تُعد حصادًا ضروريًا لثلاثة عصورٍ جديدة: عصر تكنولوجيا المعلومات (مدفوعًا بأجهزة الحاسوب والذاكرة الرقمية)، وعصر التكنولوجيا الحيوية (مدفوعًا بالهندسة الوراثية وتسلسل الحمض النووي)، وعصر التكنولوجيا العصبية (مدفوعًا بأجهزة الاستشعار العصبية والواجهات الدماغية – الحاسوبية)، وهي عصور تحملنا إلى آفاق ضبابية تثير الرُعب بقدر ما تثير الأمل!

مقالات ذات صلة:

الدورة الثالثة لمعجل سيرن واكتشاف 3 جسيمات ذرية جديدة على علم الفيزياء!

الخوف والتجهيز للسيطرة على الجموع

التكنولوجيا وصراع البقاء

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية