مقالات

ميتافيزيقا في المعمل .. التشابك الكمّي: من الفلسفة إلى الفيزياء

Metaphysics in the Lab: Quantum Entanglement: From Philosophy to Physics

في الرابع من أكتوبر الماضي 2022م، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في ستوكهولم منح جائزة نوبل في الفيزياء لثلاثة فيزيائيين من جنسيات مختلفة، هم: الفرنسي آلان أسبيه Alain Aspect)- من مواليد سنة 1947م)، والأمريكي جون فرانسيس كلاوزر (John Francis Clauser– من مواليد سنة 1942م)، والنمساوي أنطون تسايلينغر (Anton Zeilinger– من مواليد سنة 1945م)، تقديرًا لتجاربهم الرائدة في ميدان ميكانيكا الكم، وبصفة خاصة على صعيد ما يُعرف بالفوتونات المتشابكة (Entangled Photons)، ما يُمهد الطريق لتقنيات جديدة في الحوسبة الكمومية والاتصالات فائقة الأمان.

لفهم ما يعنيه هذا، ولماذا اكتسب عملهم هذه الأهمية، نحتاج إلى فهم كيف حسمت هذه التجارب نقاشًا طويل الأمد بين علماء الفيزياء. وكان اللاعب الرئيس في هذا النقاش عالم فيزياء من أيرلندا الشمالية يُدعى “جون ستيورات بل” (John Stewart Bell- 1928: 1990م)، نجح في الستينيات من القرن العشرين في تبيان كيفية ترجمة سؤال فلسفي ميتافيزيقي حول طبيعة الواقع إلى سؤال فيزيائي يمكن أن يجيب عنه العلم تجريبيًّا، وكسر التمييز بين ما نعرفه عن العالم وما يمكن أن يكون عليه العالم حقًّا.

يبدو عالم ميكانيكا الكمِّ غريبًا للغاية، فنحن نعلم أن الأجسام الكمومية لها خصائص لا ننسبها عادةً إلى الأشياء العينية في حياتنا العادية، أحيانًا يكون الضوء موجة، وأحيانًا يكون جسيمًا، لكن الرصاصة والكرة والسيارة المنطلقة لا تفعل هذا أبدًا. وعند محاولة شرح هذا النوع من السلوك غير العادي، ثمَّة نوعان عريضان من التفسير يمكننا تخيلهما:

الأول: مؤداه أننا ندرك العالم الكمي بوضوح، تمامًا كما هو، ونعلم أنه غير معتاد وله قوانينه الخاصة.

الثاني: مؤداه أن العالم الكمي يُماثل العالم العادي الذي نعرفه ونحبه تمامًا، لكن نظرتنا إليه مُشوهة وقاصرة، لذلك لا يمكننا رؤية الواقع الكمي بوضوح، كما هو في حقيقته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في العقود الأولى من القرن العشرين، انقسم الفيزيائيون الكبار حول فهم عالم الكمِّ إلى فريقين، تبنى كل فريقٍ منهما تفسيرًا من هذين التفسيرين وتمسك به حتى النهاية. ومن بين هؤلاء الذين اعتقدوا أن العالم الكمِّي غيرَ عاديٍّ شخصياتٌ مثل: فيرنر هايزنبرج (Werner Heisenberg- 1901: 1976م)، ونيلز بور (Niels Bohr- 1885: 1962)، بينما كان آلبرت أينشتاين (Albert Einstein- 1879: 1955م)، وإروين شرودنجر (Erwin Schrödinger- 1887: 1961م) من بين أولئك الذين اعتقدوا أن عالم الكوانتم يجب أن يكون مثل العالم العادي تمامًا، لكن نظرتنا إليه ما زالت تتسم بالضبابية.

في قلب هذا الانقسام التفسيري يقع تنبؤ غير عادي لميكانيكا الكمِّ، فوفقًا للنظرية تظل خصائص بعض الأنظمة الكمية المتفاعلة معتمدة على بعضها البعض (متشابكة) حتى عندما يتم تحريك هذه الأنظمة بعيدًا عن بعضها البعض لمسافة كبيرة. لقد تعلمنا في صغرنا أنه يمكننا استخدام المعادلات الفيزيائية للتنبؤ بدقة بكيفية تصرف الأشياء في المستقبل، مثلًا: أين ستذهب الكرة إذا دحرجناها إلى أسفل التل؟ لكن الأمر يبدو مختلفًا في ميكانيكا الكمِّ، فبدلًا من توقع النتائج الفردية، ثمة احتمال مؤداه أن الجسيم الواحد يمكن أن يتواجد في عدة أماكن في الوقت ذاته، قبل التقاط موقع واحد عشوائيًّا عند قياسه، وعندما يرتبط جسيمان بطريقة معينة، بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينهما، تظل حالاتهما مرتبطة، ما يعني أنهما يشتركان في حالة كمومية مشتركة وموحدة، لذا فإن ملاحظة أحد الجسيمين يمكن أن تزودنا تلقائيًّا بمعلومات حول الجسيم الآخر المتشابك معه مهما ابتعد عنه مكانيًّا، وأي فعل لأحد الجسيمين سيؤثر دائمًا على الجسيم الآخر، وتلك إحدى أكثر الظواهر غرابة وإثارة للجدل بين العلماء والفلاسفة على حدٍّ سواء.

كان أينشتاين الذي تصدر المشهد الفيزيائي بنظريته في النسبية منذ بدايات القرن العشرين منزعجًا من هذه الظاهرة، لدرجة أنه كان على قناعة تامة بأن ثمة متغيراتٍ خفية (Hidden Variables) لا نعرفها، ولا يُمكننا رؤيتها، تؤثر على قياساتنا لتضعنا في مواجهة تلك النتائج، وهو ما أعلنه بوضوح في ورقة بحثية نُشرت سنة 1935م تحت عنوان: “هل يمكن أن يكون الوصف الكمومي الميكانيكي للواقع المادي مكتملًا؟” (Can Quantum-Mechanical Description of Physical Reality Be Considered Complete?) بمشاركة الفيزيائي الأمريكي بوريس بودولسكي (Boris Podolsky- 1896: 1966م)، والفيزيائي الأمريكي– الإسرائيلي ناثان روزين (Nathan Rosen– 1909: 1995)، إذ ابتكر ثلاثتهم تجربةً فكرية عُرفت باسم “مفارقة أينشتاين– بودولسكي– روزين” (The Einstein–Podolsky–Rosen paradox (EPR paradox))، حاولوا بها إظهار أن ميكانيكا الكمِّ غير مكتملة، وكتبوا قائلين: “لهذا نحن مجبرون على أن نستنتج أن توصيف ميكانيكا الكمِّ للواقع الفيزيائي المعطى بالدوال الموجية غير مكتمل”.

مع ذلك لم يخترع الثلاثة كلمة تشابك، ولا عمَّموا الخصائص الخاصة بالحالة التي درسوها. ولكن في أعقاب نشرهم لورقتهم البحثية، كتب شرودينجر رسالةً إلى أينشتاين بالألمانية استخدم فيها كلمة (Verschränkung)، والتي ترجمها هو بنفسه إلى تشابك (Entanglement) لوصف الارتباطات بين جسيمين يتفاعلان، ومن ثمَّ ينفصلان مثل الجسيمات الموجودة في “مفارقة أينشتاين– بودولسكي– روزين”. وبعد فترة قصيرة نشر شرودينجر ورقة تُحدد وتُناقش فكرة التشابك، وأشار فيها إلى أهمية المفهوم أنه سمة مميزة لميكانيكا الكمِّ، لكنه –على غرار أينشتاين– لم يكن راضيًا عن المفهوم أن يكون تفسيرًا نهائيًا، لأنه يفترض انتقال التأثيرات بسرعة تفوق سرعة الضوء، وهو مستحيل وفقًا للنظرية النسبية، وقال: “إنه من السخف تصديق أن العالم يعمل بهذه الطريقة”. كذلك تهكم أينشتاين لاحقًا على التفسير، واصفًا التشابك بأنه فعلٌ شبحي عن بُعد (Spooky action at a distance).

مع مرور الوقت أصبحت مسألة كيفية تفسير نظرية الكمِّ مجرد حاشيةٍ أكاديمية، وبدا السؤال عن الواقع الكمومي الفعلي فلسفيًّا بالدرجة الأولى. وفي الأربعينيات من القرن الماضي كان ثمَّة عديد من ألمع العقول في فيزياء الكمِّ مشغولين باستخدام النظرية في مشروع عملي للغاية: بناء القنبلة الذرية، ولم يشغلهم السؤال تجريبيًّا حتى الستينيات، عندما حوَّل الفيزيائي الأيرلندي الشمالي “جون ستيورات بل” انتباه الجميع إلى مشكلة التشابك مرة أخرى، وقتها أدرك المجتمع العلمي أن هذا السؤال الفلسفي على ما يبدو يمكن أن تكون له إجابة تجريبية ملموسة.

حقَّق “بل” تقدمًا مُهمًّا سنة 1964م، إذ ابتكر اختبارًا نظريًّا لتبيان أن المتغيرات الخفية التي كان يُفكر فيها أينشتاين غير موجودة، ولا يُمكن أن تكون تفسيرًا صحيحًا لميكانيكا الكمِّ، وأنه وفقًا للواقع الفعلي يمكن أن تكون الجسيمات متشابكة ومتصلة بشكلٍ شبحي، بحيث إننا إذا تعاملنا مع جسيمٍ منها، فإنه يُؤثر بشكلٍ فوري على جسيم آخر بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينهما. وبعبارة أخرى: إذا كانت ثمَّة عوامل تُضاف إلى ميكانيكا الكمِّ في نظريةٍ ما لتحديد نتائج القياسات الفردية دون تغيير التنبؤات الإحصائية، فإنه يجب أن توجد آلية تسمح بأن يؤثر ضبط جهاز قياسٍ ما على قراءة جهازٍ آخر مهما كان بعيدًا عنه.

قد يبدو التشابك الكمومي مفهومًا مُعقدًا يستعصي على الفهم، لكن من الممكن تبسيطه بمثالٍ نوعي: تخيل مصباحًا يُصدر فوتونين (جسيمات ضوئية) ينتقلان في اتجاهين متعاكسين بعيدًا عنه، إذا كان الفوتونان متشابكين، فبإمكانهما مشاركة خاصيةٍ ما مثل الاستقطاب (ظاهرة تحدث عندما تتذبذب الموجة الكهرومغناطيسية التي تشكل الضوء المرئي في اتجاه تفضيلي)، بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينهما، وهو ما يعني وجود تأثير غامض وشبحي عن بُعد. لنأخذ أيضًا وبشكلٍ مجازي راقصًا كموميًّا على الجليد، لديه القدرة الخارقة للطبيعة المتمثلة في القدرة على الدوران مع عقارب الساعة وعكس عقارب الساعة في الوقت ذاته، إن زوجًا من راقصي الجليد المتشابكين والمتباعدين عن بعضهما البعض سيمتلكان اتجاهات دوران مترابطة بشكل كامل، بمعنى أنه إذا كان الراقص الأول يدور مع عقارب الساعة فسيدور الراقص الثاني عكس عقارب الساعة، وأي تأثير على الراقص الأول يجعله يدور عكس عقارب الساعة سيتبعه تغيير فوري لاتجاه دوران الراقص الثاني ليدور مع عقارب الساعة، وهكذا حتى ولو كانا يتزلجان على حلبتي تزلُّج في قارتين مختلفتين، وهذا بعينه ما أثبته “بل” نظريًّا بتجربته الفكرية الرياضية المتخيلة. وفي سنة 1972م –أي بعد ثماني سنوات فقط من تجربة “بل”، وفي وقت كان فيه إجراء التجارب على الفوتونات المفردة أمرًا لا يمكن تصوره تقريبًا– تمكن “كلاوزر” من وضع نظرية “بل” موضع التنفيذ، وأثبت تجريبيًّا أن فوتونات الضوء يمكن بالفعل أن تكون متشابكة.

كانت نتائج تجربة كلاوزر رائدة وصادمة، لكن ظل عددٌ قليل من التفسيرات البديلة قائمًا، فيما عُرف باسم ثغرات اختبار “بل” (Loopholes in Bell’s test)، وهي تفسيرات تُلوح بغموض المتغير الخفي الذي أشار إليه أينشتاين. وهذ ما تصدى له أسبيه، إذ ابتكر تجربة بارعة أظهر من خلالها أن الفوتونات المتشابكة في التجربة لا تتواصل فعليًّا مع بعضها البعض من خلال متغيرات خفية، مما يؤكد أنها مترابطة بشكل شبحي. وعند هذا المنحنى يغدو السؤال الأكثر أهمية هو التالي: ما سبب الاهتمام الفلسفي– الفيزيائي بسلوك المادة في العالم المجهري؟ وما الفائدة التي يمكن أن تعود علينا إن كانت الفوتونات متشابكة أو غير متشابكة؟ هنا تتألق رؤية تسايلينغر، فلئن كنا قد قمنا من قبل بتسخير معرفتنا بالميكانيكا الكلاسيكية لبناء الآلات، وإنشاء المصانع، وهو ما أدى إلى الثورة الصناعية، ولئن أدت معرفتنا بسلوك الإلكترونات وأشباه الموصلات إلى الثورة الرقمية، فإن فهم ميكانيكا الكمِّ من شأنه أن يفتح لنا آفاقًا أوسع، ويسمح لنا ببناء أجهزة قادرة على القيام بأشياء جديدة لم تكن في متناول أيدينا.

يمكننا مثلًا تسخير التشابك الكمي في الحوسبة لمعالجة المعلومات بطرق لم تكن ممكنة من قبل، ويمكن أن يسمح اكتشاف التغييرات الصغيرة في التشابك لأجهزة الاستشعار باكتشاف الأشياء بدقة أكبر من أي وقت مضى، ويمكن أن يضمن الاتصال بالضوء المتشابك أيضًا الأمان، إذ يمكن لقياسات الأنظمة الكمومية أن تكشف عن وجود المتنصت في أية لحظة. لقد تمكن تسايلينغر من تبيان كيف يمكن ربط سلسلة من الأنظمة المتشابكة معًا لبناء ما أسماه المُعادل الكمومي للشبكة (Quantum Equivalent of a Network)، وهو ما يُمهد لثورة تكنولوجية كمومية واسعة النطاق. وهكذا لم تعد تطبيقات ميكانيكا الكم مجرد خيالٍ علمي مأمول، إذ شهدت الآونة الأخيرة ظهور أول جهاز حاسوب كمومي، تُقاس فيه كمية البيانات بـ”الكيوبت” (Qubit) (اختصارًا لتعبير “البت الكمومي” Quantum bit)، والمبدأ الأساسي للحوسبة الكمومية هنا هو القدرة على الاستفادة من الخواص الكمومية للجسيمات، مثل التشابك الكمومي، لتمثيل البيانات ومعالجتها، بالإضافة إلى استخدام قواعد ميكانيكا الكم لبناء وتنفيذ التعليمات والعمليات على هذه البيانات. كذلك يستخدم القمر الصناعي ميسيوس (Micius)، أو موزي (Mozi) –تيمنًا باسم الفيلسوف الصيني القديم– التشابك الكمومي لتمكين الاتصالات الآمنة في جميع أنحاء العالم، وتُستخدم أجهزة الاستشعار الكمومية في تطبيقات متنوعة، من التصوير الطبي إلى المسح الذي تقوم به الغواصات في أعماق البحار والمحيطات.

ربما لو كان أينشتاين حيًّا، لكانت هذه أخبارًا غير سارة له، فما لم نقبل الفعل الشبحي عن بُعد، فلن نجد تفسيرًا آخر للأنظمة المتشابكة التي يمكن أن تعكس عالم الكمِّ المرصود! نعم، ربما كان أينشتاين مُخطئًا، ويبدو من نتائج التجارب أن عالم الكمِّ لا يُشبه عالمنا بالفعل، وأن رؤيتنا له ليست ضبابية أو قاصرة، لكن لا يُمكننا في الحقيقة أن نَعُدَّ هذا انتصارًا حاسمًا لخصوم أينشتاين، فالفكرة القائلة: إننا نُدرك بوضوح عالمًا كميًّا غير عادي بطبيعته تبدو فكرة مُفرطة في التبسيط، لأننا ببساطة –ورغم كل ما أحرزناه من تقدم– ما زلنا نحبو على طريق المعرفة العلمية، وما زال العلم يُخبرنا يوميًّا أن ثمَّة نظريات تنسخ نظريات سابقة، وتجارب تُوسع من منظور تجارب أخرى.

كما تضعنا أيضًا هذه التجارب أمام أحد الدروس الفلسفية الرئيسة لهذه المرحلة البحثية: إننا –من منظور علمي براجماتي– لا يُمكن أن نتحدث عن عالمٍ كمِّي بما يتجاوز الوصف العلمي له، أي بشكلٍ أبعد مما لدينا من معلومات عنه. وبعبارة أخرى: لا يُمكننا أن نُميز بين الواقع ومعرفتنا بالواقع، أو بين الواقع والمعلومات، لكن هذه المعلومات لا سقف لها ولا حد، وما لا نعرفه اليوم سنعرفه غدًا، وقد يكون ما لا نراه اليوم أكثر جمالًا وتعقيدًا مما رأيناه أمس.

مقالات ذات صلة:

علماء الفيزياء يصنعون المادة من حق جديد!

هل يصلي العلماء

النظرية الأخيرة لستيفن هوكينج

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية