مقالاتقضايا وجودية - مقالات

أنت كائن ميتافيزيقي

حينما يسمع أو يقرأ أحد الناس من غير المتخصصين في الفلسفة كلمة « الميتافيزيقا » يفغر فاهه مندهشا ومتعجبا ومتسائلا عن هذا المصطلح الغريب! وحتى الطالب أو الدارس المتخصص كثيرا ما يضيق بدراسة هذا المقرر، وربما تكون بعض أقسام الفلسفة في العالم قد عزفت عن وضع ودراسة هذا المقرر ضمن برامجها الدراسية، وربما يفضلون عليه الآن دراسة فروع شتى من الفلسفة التطبيقية المعنية بالتركيز على قراءة وتفسير ودراسة مشكلاتنا الحياتية المعاصرة سواء كانت مشكلات سياسية أو أخلاقية أو علمية أو جمالية وفنية، إلخ.

أصل المصطلح

وليسمح لي الجميع بأن أوضح لهم أن هذا المصطلح في أصله اليوناني مركب من مقطعين هما: «ميتا» وتعني ما بعد أو ما وراء، و«فيزيقا» وتعني الطبيعة، أي أن المصطلح ككل يعني ما وراء أو ما بعد الطبيعة. وقد أطلقه شراح أرسطو على مجموعة مقالات كتبها موسومة بالحروف اليونانية، وتحدث فيها إجمالا عما كان يدعوه هو بالفلسفة الأولى.

ولعل السؤال الآن: ماذا كان يقصد أرسطو وشراحه بهذا الاسم؟! لقد كان أرسطو ببساطة يُعّرف هذا العلم بأنه علم دراسة الوجود بما هو كذلك بعدما ميز بين الوجود في ذاته وبين الموجودات، فالموجودات المادية الطبيعية التي أمامنا وحولنا إنما هي ظواهر طبيعية يدرسها العلماء في علومهم المختلفة: علم الفيزياء – علوم الحياة – علم الفلك – إلخ.

بينما التساؤل عما وراء هذه الظواهر والموجودات الطبيعية هو تساؤل فلسفي عادة ما يطرحه الإنسان على نفسه دون أن يهتم بالإجابة عليه، وإذا اهتم فهو عادة ما كان يطلق العنان لخياله لإطلاق الكثير من الأساطير المفسرة لهذا الما وراء، وكثيرا ما تحولت هذه التصورات الخيالية إلى عقائد دينية آمن بها البشر دون إعمال عقل ودون تدبر!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

انتقال أرسطو من دراسة الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة

والجديد لدى أرسطو فيما سماه بالفلسفة الأولى وما سماه شراحه بما بعد أو ما وراء الطبيعة هو أنه أخضع هذا الما وراء لتأملات العقل مستفيدا من دراساته العلمية في علم الطبيعة وعلم الفلك، وكان من أهم ما توصل إليه عبر تأملاته الفلسفية وحججه العقلية أن ما وراء هذا العالم الطبيعي هو الوجود الإلهي، وأن هذا «الإله» يتصف بالضرورة بأنه واحد وأنه غير مادي وغير محسوس وأنه هو العلة الأولى لكل ما هو موجود في هذا العالم الطبيعي بسمائه وأرضه.

وهكذا انتقل أرسطو من دراسة الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة واعتبر أن الموضوع الأسمى لهذا العلم الجديد الموسوم بالفلسفة (أو الميتافيزيقا ) هو معرفة العلل الأولى للوجود وعلى رأسها علة العلل والمحرك الذي لا يتحرك وهو الإله.

ولذلك كان الشراح والفلاسفة العرب يسمون هذا الكتاب لأرسطو «إلهيات أرسطو طاليس»، وشغفوا به شغفا كبيرا، وحاولوا الاستفادة مما فيه من حديث عن الوجود الإلهي والبراهين العقلية على وجود الله في التوفيق بين الفلسفة والدين، ولم يكن ذلك حبا في أرسطو بقدر ما كان محاولة منهم لجذب كل الناس الذين كانت ثقافتهم ثقافة يونانية إلى الإيمان بالدين الإسلامي، فالدين الإسلامي هو دين التوحيد، ولا يتناقض ما أتى به الوحي مع ما قاله فلاسفة اليونان الكبار وخاصة أفلاطون وأرسطو.

الإنسان كائن ميتافيزقي

ولعلنا نفهم الآن لماذا كان أول كتاب فلسفي في العالم الإسلامي هو رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تلك الرسالة التي أزال فيها الكندي كل حجج الرافضين للفلسفة ومنتقديها من غلاة الفقهاء في العالم الإسلامي، متهما إياهم بأنهم في هجومهم على الفلسفة و الميتافيزيقا إنما يتاجرون بالدين ولا يفهمون أن ما أتى به عقل هؤلاء الفلاسفة الكبار إنما يدعم ويؤكد صدق ما أتى به الشرع ولا يتناقض معه. إن الميتافيزيقا إذًا ليست بعيدة عن الإنسان ولا عن تساؤلاته الجوهرية حول حقيقة الوجود.

إن الإنسان في رأيي كائن ميتافيزقي، جُبل على أن يفكر شاء أم أبى في الما وراء والتساؤل عن ما وراء الحقائق العلمية أو المادية. ومنذ فجر التاريخ وإلى الآن، فأهم ما يشغل الإنسان حتى الطفل الصغير هو: من أين جاء وإلى أين سيذهب بعد الموت، هذا هو السؤال الميتافيزيقي الذي فجر ينابيع الإبداع منذ أولى الحضارات المصرية القديمة وحتى الآن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تتعدد الإجابات على هذا التساؤل، وتدور حوله أبحاث العلماء وتأملات الفلاسفة وهنا تبدو مشروعية الميتافيزيقا، وهنا ندرك أنه لا غنى لنا عن أن نقرأ تأملات الفلاسفة ونتائج أبحاث العلماء وخاصة في عصرنا الحالي الذي تجاوز مادية الجسم وصلابته، وأدرك أنه لا صلابة هناك وإنما موجات وذبذبات فيما دون الذرات. إنه حتى في الأبحاث العلمية المعاصرة ذاتها توجد الميتافيزيقا رغم أنف منتقديها من العلماء .

إن الحديث عن « الميتافيزيقا » أيها القارئ العزيز لم يعد حديثًا في المجهول، بل أصبح حديثًا فيما وراء كل «معلوم»! إنه لم يعد ترفًا عقليًا تأمليًا يقتصر على الفلاسفة الخُلص، بل هو حديث ينبغي أن يتفاعل معه كل إنسان أيًا كان، فالإنسان بما هو إنسان «كائن ميتافيزيقي» بطبعه.

“منقول بإذن من كاتبه”

اقرأ أيضاً:

لماذا الفلسفة الآن؟

معرفة النفس

كفانا من الفلسفة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. مصطفى النشار

رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، ورئيس لجنة الفلسفة بالأعلى للثقافة

مقالات ذات صلة