مقالات

الأزمة الحضارية وثقافة اللقطة!

هل بلغتَ مرحلة عدم الاكتراث بكل ما يدور حولك في الشأن العام، وكل ما كان يشغلك أو يقض مضجعك من قبل؟ هل بلغت تلك المرحلة التي تشعر فيها بأن أمورًا –كبُرت أو صغُرت– لم تعد ذات أهمية، وأن تطوراتها ونتائجها لم تعد تعنيك في شيء ما دام كان حشد الدهماء متعايشًا معها، وما دامت حتميتها أقوى من مجرد التفكير في تغييرها؟ هل بلغت مرحلة الصمت في معية الآخرين، والاكتفاء بهز رأسك بالموافقة لهذا أو ذاك، في حين تعتمل في داخلك ضحكةٌ ساخرة أو دمعةٌ متحجرة، تستنكر تفاهة أحاديثهم، وضحالة أفكارهم، وعبثية صراعاتهم، وخواء برامجهم وإنجازاتهم؟ هل بلغت مرحلة اليأس المنطقي إزاء مجتمعٍ يتآكل ذاتيًا من الداخل فيغدو هشًا، قبل أن تدهسه قوى الخارج فتُجهز عليه آمنةً مطمئنة؟

إن كنت قد بلغت هذه المرحلة فمرحبًا بك في عالم العقلانية المتعالية، حيث رحابة الحياة وفق مبدأ النجاة النبوي: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك”، نعم، ابك على خطيئتك، فقد كانت لبنة في صرح الفساد الشامخ الذي ابتلع وما زال يبتلع كل شيء!

ستظل الشمس تُشرق، وستظل أمواج البحر تضرب الشاطئ برتابة، وسيظل الحمقى فرحين بحماقاتهم، متباهين بها! وقتئذٍ تشعر أن صمتك أقوى من أن تُفسر لجاهلٍ ما فتئ يُفرغ أمام الجمع ما في جوفه من تفاهة، أو أن تُبرر لأحمق ما زال صدى تصفيق المنافقين له في الماضي يُطرب أذنيه، لكنك ستُدرك في الوقت ذاته أن صمتك أبجديةً لن يفهمها، بل قد يُؤوله بجهله ضعفًا منك، ويُعاودك الشعور بالغثيان من عبثٍ يُلاحقك، وحقٍ يتألم في ظُلمةٍ لا فكاك منها، وتتساءل في صمتٍ: إلى متى ستظل مُطالبًا بأن تكون عاقلًا أمام من أسكرته حماقته، هادئًا وإن استهدفتك سهام الجهل الصاخب؟!

لقد حدثنا بعض الفلاسفة عن اليوتوبيا (المجتمع المثالي الفاضل الزاخر بأسباب السعادة والرفاهية)، وحدثنا بعضهم الآخر عن الديستوبيا (المجتمع غير المثالي وغير الفاضل الذي يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته، ويتحول فيه الناس إلى مجموعة من المسوخ المتناحرة)، لكن عالمنا العربي أبى إلا أن يُصدر نُسخهُ الأصيلة المُفسرة للثاني: الكَذبتوبيا، السَرقتوبيا، الحَمقتوبيا، الهَبلتوبيا، عَدِدهَا وسَمِها ما شئت! مجتمعٌ إذا واجهته بالحقيقة أو بجانب منها أخذته العزة بالجهل، وبالفساد، وبالتخلف، وبالازدواجية!

هل مرد ذلك إلى قلة الموارد؟ بالتأكيد لا! لقد وضع نبي الله يوسف (عليه السلام) بتعبيره لرؤيا الملك أهم قانون في علم الإدارة وفنها، أن الفشل ناجمٌ بالضرورة عن سوء الإدارة، لا عن قلة الموارد. لم يشترط يوسف توفير موارد جديدة لتخطي السبع العجاف، لكنه أدار الموارد المتاحة بنفسه، لم يُوجه لرؤسائه أو مرؤوسيه التهم جُزافًا، لكنه تعاون معهم على إدارة المنظومة التي تولى مسؤوليتها كُلًّا لا يتجزأ، مُدركًا أن فشل الجزء، وإن أدى دوره، مرده إلى فشل الكل كونهم عناصر مترابطة يأخذ بعضها برقاب بعض. وثمة رواية متداولة في هذا الصدد مؤداها أن إحدى الجامعات الأوروبية نظّمتْ يومًا رحلة لطلابها، وفي أثناء الرّحلة قتل أحد الطلاب بطّة، فما كان من وزير التعليم إلا أن بادر بتقديم استقالته، وعندما سألوه عن علاقته بمقتل البطة حتى يستقيل، أجاب قائلًا: “أنا مسؤولٌ عن نظامٍ تعليميٍ أحد أهدافه أن ينتج مواطنين يحترمون حق الحياة لكل المخلوقات، وبما أنّ هذا الهدف لم يتحقق فأنا المسؤول! المؤسسات أجساد والمـدراء رؤوس، ولا يستقيم جسدٌ ما لم يستقِمْ رأسه”!

ماذا إذن عن التعليم وجودته؟ الحق أنني لا أجد فرقًا بين نظام التعليم (المدرسي والجامعي) ومُنتجه قبل سنة 2006، وهي السنة التي أنشئت فيها الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، وما بعدها، بل ربما كان المنتج التعليمي أردأ وأسوأ! ولا أجد فرقًا بين مدرسة أو كلية أو جامعة معتمدة من قبل الهيئة وأخرى لم تنل شرف الاعتماد! ما يقرب من سبع عشرة سنة تفصلنا عن تقنين الجودة والاعتماد، استهلكنا فيها مليارات الأوراق، وأقمنا مئات وربما آلاف الندوات وورش العمل، وأنفقنا فيها ما لا حصر له من الأموال، إلخ، وما النتيجة العينية الملموسة؟ لا شيء! هل تُميز الجامعات أو مكاتب التنسيق بين طالبٍ جاء من مدرسة مُعتمدة وأخرى غير مُعتمدة؟ لا! هل ترى ميزات وظيفية لخريجي الكليات والجامعات المعتمدة في نظامنا الاقتصادي المترهل؟ لا! هل تغلبت شهادة الخريج في كلية أو جامعة مُعتمدة على الوساطة والمحسوبية والتوريث في سوق العمل؟ لا! هل تخلت جامعاتنا المُعتمدة عن مراكزها المتأخرة في التصنيفات الدولية؟ لا! هل وُضعت قواعد لممارسة المهنة تُعطي أفضلية للطبيب أو المهندس أو المحاسب أو المحامي الذي درس في كلية أو جامعة معتمدة عن غيره؟ لا! هل تحسنت الأوضاع الوظيفية والمعيشية لأعضاء هيئات التدريس في الكليات والجامعات المعتمدة عن سواها؟ لا! هل تغيرت النُظم الإدارية وارتقت القدرات البحثية لأعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا في الكليات والجامعات المعتمدة عن غيرها؟ لا؟ هل وهل وهل، والإجابة واقعيًا: لا، إذن إلى متى؟

لنكن إذن صادقين مع أنفسنا، ليس لدينا علمٌ ولا فلسفة –بمقياس العصر– يُمكننا بهما النهوض من كبوتنا الحضارية، وإلا لاختلف حالنا تمامًا. كل ما لدينا إنتاجٌ فكري غربي (علمي وفلسفي) نستهلكه ونتشكل به كذبًا على مدار الساعة، ولا نقوى على هضمه وتمثله والإضافة إليه، ليس لدينا تعليمٌ ولا بحث علمي يُثمران مُنتجًا لديه القدرة على العطاء والمنافسة، كل ما لدينا مجرد برامج نُسوقها ونُتاجر بها، ولا بأس من أن تمتد إليها يد العبث من حينٍ إلى آخر لكي تُضفي عليها لمسة تطورية زائفة، دون النظر إلى إمكاناتنا وحاجاتنا واستعداداتنا، ونحن بعيدون عن تراثنا بقدر بُعدنا عن الحداثة، فلا نحن متمسكون بإرث الأسلاف، أو على الأقل مستلهمون لإرادتهم ووعيهم، ولا نحن مشاركون في أفكار الحداثة أو مستفيدون منها إلا مظهريًا، أصالتنا غائبة، وحداثتنا وهم، ولو منع عنا الغرب إنتاجه العلمي والتكنولوجي لغرقنا في ظلمات لا فكاك لنا منها، ولو اختفينا من الوجود فلن يُؤثر ذلك شيئًا في استكمال الغرب لمسيرته الحضارية!

المشكلة ليست في القديم أو الحديث بقدر ما هي فينا نحن، في عقولنا، في صراعاتنا التي تُجسد نظرتنا تحت أقدامنا، في احتفائنا بإزاحة الستار عن مرحاض مُرصع بالألماس، ليكشف بوضوح عما تموج به أدمغتنا من طموحات!

المشكلة ليست في القديم أو الحديث، لكنها في ثقافة “اللقطة”! “اللُقْطة” بضم اللام وتسكين القاف، هو الشيء المأخوذ الذي يلتقط، وتشمل الإنسان ويُسمى لقيطًا، والحيوان ويُسمى ضالة. و”اللَقْطة” بفتح اللام وتسكين القاف هي المنْظرُ في الفيلم تُؤخذ صورته على حدة. وما بين اللُقْطة واللَقْطة في عالمنا العربي تشابه مثير، فمنذ اختراع الكاميرا Camera (من الأصل العربي “قُمرَة”، وتعني المكان المظلم المغلق، وهي وصف للغرفة المظلمة التي استخدمها ابن الهيثم في تجاربه البصرية)، أصبحت اللَقطة عُنصرًا فاعلًا في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية، لكنها في عالمنا العربي اتخذت بُعدًا مُغايرًا قوامه إثبات الذات الخاوية، لا سيما بعد أن زُودت الهواتف المحمولة بكاميرات تُسجل الأحداث لحظة بلحظة!

إذا استيقظ أحدهم من نومه، أو تناول إفطاره، أو ذهب إلى عمله ومارس بعضًا منه، أو التقى صديقًا أو قريبًا أو حتى شخصًا عابرًا، أو زار مريضًا، أو أدى فرضًا من فروض الله، أو شارك في أي نشاطٍ حياتي طبيعي، إلخ، تراه يعمد إلى تسجيل هذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية ليزف إلى أصدقائه على مواقع التواصل الاجتماعي إنجازه الضخم! وإذا بدأت الدراسة أو الامتحانات في المدارس والجامعات، ترى مسؤوليها يُسرعون الخطى لزيارة بعض الفصول واللجان في اليوم الأول، يجرّون وراءهم تلك الفرق الإعلامية بكاميراتها لتُسجل للتاريخ أن كل شيء على ما يُرام، وأن أساتذتنا وأبناءنا تجود قريحتهم بما تعلموه من إبداعات، ولا بأس بعدها من أن يسود الهرج والمرج والغش والمعاناة والمحاباة! وإذا افتُتح مشروع ولو كان مكتب بريد في زاوية مجهولة من شوارعنا، أو وقعت حادثة، أو نُظمت أية فعالية ثقافية أو اجتماعية، ترى المسؤول منتشيًا أمام الكاميرات، متصدرًا المشهد، متأهبًا للقطة، وحوله زُمرة من زبانية التملق يشغلون زواياها! وإذا التقى أحدهم مشهورًا أو معروفًا أو أعلى منه منزلةً سارع إلى التقاط صورة بجواره، كأنه يُعلن عن دونيته، أو عن ذاته (الضالة) التي تستمد قيمتها من شُهرة الآخر ومكانته!

الشاهد أن حياتنا نحن العرب أصبحت مجرد لقطات كاذبة متتالية، لا يهمنا سوى ما تحتويه، ولا يُفزعنا ما لا تحتويه، المُهم اللَقْطة، تتوحد بها الذات المنتفخة فراغًا، تمتد في وعيها وتشاركها اللا وعي، ومع تتابع اللقطات نُصدق ونخدع أنفسنا ونظن أنها إنجازات، وربما مُعجزات! اللَقْطة تلخيص لحالة كذب كبيرة نعيشها، ومتلازمة وهم هدفها الأول والأخير تبرير وجودنا وتسويق جهلنا وتخلفنا!

أخيرًا، وانعكاسًا لثقافة اللقطة في العالم العربي، تجد أكثر من قالوا لك تمهل، وعليك أن تصعد السُلم درجةً درجة، كانت لديهم مصاعد، بل وورَّثوها لذويهم، وأكثر من قالوا لك إن السعادة ليست في امتلاك المال كانوا أغنياء بُطرقهم الخاصة، وأكثر من قالوا لك كن فداءً لكي تحظى بالآخرة امتلكتهم الدنيا وغشيتهم بمتاعها، وأكثر من تشدقوا ويتشدقون بالأمانة والإخلاص لصوص أوغاد، يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، إلا من رحم ربي، فاعرف القائل تُدرك مغزى مقولته، وقل لي ماذا تقرأ ولمن، ومن تُصاحب، أقل لك من أنت!

مقالات ذات صلة: 

فن اللقطة في زمن الفهلوة

الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية

حضارة تم بناؤها على العبودية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية