مقالات

الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية – لماذا رفض صاحبنا الدعوة ؟

الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية – لماذا رفض صاحبنا الدعوة ؟

جاءتني أولى الدعوات من أحد زملائي في الغربة على رحلة لأحد ينابيع المياه الساخنة التي تمتاز بها أحد المدن السياحية في هذا البلد. كنت أود منذ فترة أن أذهب لأحد تلك الأماكن حيث إنني أعاني في بعض الأوقات من ألم في ظهري، ويعلم الله كم أحتاج لمثل هذه المعالجة الصحية. كانت آخر مرة والمرة الوحيدة التي ذهبت فيها لينابيع المياه الساخنة في سيوة بغرب مصر. كان ينبوع مياه كبريتية رائع أشعرني بالراحة والسعادة البالغة الجلوس والاستجمام هناك في الماء الدافئ وانتبهت بعدها أن أغلب أوجاع ضهري قد تضاءلت.

ولذلك فلقد لمعت عيناي بالفرحة حينما حصلت على الدعوة، وعلى الفور قمت بحجز مكان في الرحلة. وبعد ذلك بوقت يسير دخل علي أحد زملائي الأجانب فسألته إن كان سيذهب للرحلة فقال لي أنه غالبا سيذهب، فقلت له جيد. وسألته هل الرحلة ممتعة فعلا؟ فقال لي إن أجمل شيء أننا نتناول الكثير من الشراب إلى الساعات المتأخرة من الليل، إنها فعلا عملية ممتعة بها الكثير من الضحك والمزاح.

لم يتكلم عن جمال المياه أو دفئها أو الراحة النفسية التي تشعرك بها، فقط اهتم بالكلام عن الشراب والسكر وكيف أنها فرصة لإذهاب العقل! هنا شعرت وكأن كل أحلامي تهدمت أمامي، فذهبت في صمت إلى لوحة التسجيل وشطبت على اسمي. وعندما سألني زميلي الذي دعاني في المرة الأولى عن السبب قلت له أنني مشغول ولن أستطيع الذهاب. لم أجد جدوى من الشرح لمجتمع لا يعي مدى الأزمة التي هو منغمس فيها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأزمة الحقيقية

ولكن لم تكن تلك هي الطامة الكبرى و الأزمة الحقيقية، ففي مساء اليوم التالي ذهبت مع أصدقائي المصريين في الغربة لنجلس على أحد المقاهي ونتسامر قليلا بالعربية التي باتت حلم يراودنا في خضم كل هذه اللغات الغريبة التي نسمعها. وفي الكلام ذكرت لهم الرحلة التي دعيت لها وقلت لهم عما حدث. فقال لي صديقي ساخرا “إن هذه ليست المشكلة الأساسية التي كانت ستواجهك لو كنت ذهبت معهم، هل تعرف أنهم يذهبون في أيام مخصوصة للرجال وأيام مخصوصة لنساء؟

” فاستعجبت من ذلك فطبيعة المجتمع هنا منفتحة ولا أسمع عن الفصل بين الجنسين إلا في الحمام، فسألته لماذا؟ فقال لي لأنهم ينزلون إلى الينابيع عرايا دون أي ملابس للسباحة تسترهم. فصدمت، وقلت له كيف ذلك؟ والمديرين في العمل سيذهبون مع الموظفين والشباب الخريجين المتدربين حديثا، ألا يشعرون بالإحراج عندما يقف المسؤول أمام موظفيه عار كما ولدته أمه؟! ألا يشعرون بالخجل أو حتى الاشمئزاز؟

قال لي صديقي “لقد كنت أود أن أذهب في مرات كثيرة ولكني حينما قلت لهم أنني يجب أن أرتدي لباس السباحة، قالوا إنك ستكون غريبا ومستهجنا!” لقد وصل بهم الأمر أن التعري هو الطبيعي وأن التستر واحترام الخصوصية أصبح الغريب والمستهجن. بصراحة لا أجد الكثير من التحليل والنقاش لأقوله حول الانطباع المباشر عن هذه الطباع السيئة غير أنني أشعر بالأسف والاشمئزاز، ولكن في النهاية لم ولن أذهب؛ فلا أملك المزيد لأصف به تلك المهزلة و الأزمة .

الفلسفة المادية تهدم الطبيعة الإنسانية

ما الذي تصنعه هذه الثقافة المادية الخبيثة بهذه العقول المسكينة لكي يقبل الشخص منهم في مقابل التطور والتقدم التكنولوجي أن يعيش بلا كرامة أو حياء أو رقي إنساني. إن الطفل الصغير يشعر بالحرج لو كشفت عنه ملابسه أمام الناس، فهذا شعور فطري لا خلاف عليه، أن تحب أن تحجب الملابس خصوصيتك عن أعين الناس، لا تحتاج أن تكون من خلفية دينية معينة لتدرك ذلك. فهي طبيعة إنسانية عامة لا خاصة بمجموعة معينة دون غيرها.

أما هذا المجتمع المادي الذي نتشدق به في كلماتنا ومقالتنا ونجلد أنفسنا ونلطم خدودنا لأننا لسنا مثلهم، فهم يتعلمون منذ الصغر كيف يخالفون فطرتهم وكيف يدمرون حواجز الحياء والعفة في المجتمع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنهم بحق قد طبقوا المادية بأقصى صورها حيث تحول الإنسان للحيوان الاقتصادي فعلا، منتج مستهلك متكاثر فقط. لكن لا يستخدم عقله إلا في حيز المادة الضيق في تصورات الفلسفة الشرقية، وهو صميم رؤية الفلسفة التجريبية التي تضع العقل في إطار المادة كخادم لها لا كسيد عليها. فتحول السؤال الجوهري في الحياة عندهم من لماذا نعيش؟ إلى كيف نعيش؟ وكيف نعيش بطريقة أفضل؟ فقط.

ولذلك أقول وعلى الرغم من الكثير والكثير من المشاكل التي تعصف بوطني الغالي إلا أننا مازلنا نملك من المقومات العقلية والأخلاقية ما يمكننا من تقديم نموذج حضاري لم تصل له حتى أكثر الدول تقدما في عالم الفيزياء والكيمياء والأحياء.

مجتمع وحضارة الإنسان الحقيقي العاقل الناطق الكريم المعتز بكرامته وإنسانيته، لا إنسان يبيع إنسانيته في مقابل حياة هي أقرب إن لم تكن أقل من حياة البهائم!

اقرأ أيضاً:

صراع القيم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كتبت القايمة ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة