مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

لماذا نبدأ بالعقل؟

موضوع جدا مهم، بل من الموضوعات الشائكة التي كثر الجدال والنقاش حولها، فهل نبدأ بالعقل في معالجة قضايانا التي تطرح أمامنا كل في مجال تخصصه؟ هل نبدأ بالنقل؟ أم بالكتب المقدسة؟ أم بهم جميعا؟ سؤال فلسفي أثارته العديد من الفلسفات، فنجد الفلسفة اليونانية منذ الطبيعيين الأوائل وحتى المدارس اليونانية المتأخرة والمدرسة الرواقية والأبيقورية نجد جميعهم قد خاضوا في قضايا فلسفية كان نقاشها عقليا.

حتى أفلاطون الذي صنف فيلسوف المثالية فإنه لم يحد عن إعمال العقل، وكذلك المعلم الأول أرسطو الذي لقب برائد الاتجاه العقلاني في الفكر اليوناني، سواء في معالجته للمسائل الطبيعية (راجع كتابه السماع الطبيعي) والمسائل الميتافيزيقية (النفس). إذ كانا يعرضان قضاياهما على العقل بمعطياته وبمقدماته، ثم يستخلصان نتائجا تعرض على العقل، فإذا كانت متسقة ومتوافقة كان يتم قبولها، أما إذا لم تتفق ويتوافق عليها فإنه يتم إعادة معالجتها وطرحها مرة أخرى عن طريق الجدل المنطقي.

خطاب العقل

والشاهد على ذلك محاورات سقراط مع السفسطائيين، فكان يغلب عليها الخطاب العقلاني تهكما وتوليدا، وإذا ما اتجهنا إلى العصور الوسطى اليهودية والمسيحية والإسلامية، فنجد جميعهم (جميع الفلاسفة) حاولوا إرضاء نزعاتهم العقلية في معالجة قضاياهم. ولم لا؟! والفلسفة روحها العقل وميزانها العقل، وقد أدى ذلك إلى تعرض كثير منهم إلى حملات الاضطهاد والكراهية والتشويه، بل اتهمهم كثيرون بالزندقة والإلحاد والمروق عن الدين.

فنجد ابن تيمية يقول: “من تمنطق فقد تزندق”، وقوله: “إذا تعارض صحيح المنقول مع صريح المتقول يقدم صحيح المنقول”، يا سادة! من منا ونحن أصحاب الديانات السماوية ينكر صحيح المنقول؟! لا أحد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن كان لابد على ابن تيمية من مراجعة هذه المقولة بالقول نعرض الموضوعات مرة أخرى ومرات عديدة إلى أن نصل إلى توافق بينهما، خاصة أن الأديان السماوية جميعها تخاطب العقل. والعقل هبة من عند الله كذلك فكيف يتعارضان وكلاهما أثران من أثر الكامل؟! لو تصفحنا كتاب دلالة الحائرين لموسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي نجد خطابا عقلانيا، وهذه ضرورة منطقية لأنني كما ذكرت الفلسفة خطاب عقلاني.

ما بين العقل والنقل

وكذلك فلاسفة الإسلام بدءا من الكندي وحتى ابن خلدون فإننا لا نفارق روح التفلسف السائد على كتاباتهم العقلانية. فنجد الفارابي يؤلف رسالة في معاني العقل وكذلك ابن سينا يبدع في كتابه تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات والإلهيات، إنها رسالة يسودها العقلانية.

وإذا ما اتجهنا إلى فلاسفة المغرب بدءا من ابن سيد البطليوسي ومرورا بابن باجة وابن طفيل ورسالة الاتصال الباجية فإننا نرى خطابا عقلانيا يحلق بنا في فضاء رحب يشعرنا بالبهجة والنشوة العقلية يشعرنا أننا نحيا بالعقل، حتى إذا ما وصلنا إلى فيلسوف قرطبة ابن رشد الذي قال تعلمت فلسفتي العقلية على يدي المعلم الأول أرسطو وأكملتها على يد ابن باجة الذي لو أمهله القدر لأصبح فيلسوف العقلانية الأوحد في العالم العربي والإسلامي.

ولكن إحقاقا للحق فعلى الرغم من رفع هؤلاء لشأن العقل إلا أنهم لم يجوروا على النقل بل حاولوا محاولات عديدة للتوفيق بينهما إرضاء للعقل وإرضاء للنقل. فلو رجعنا على سبيل المثال إلى ابن رشد فإننا نجده يؤلف فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.

وثمة محاولات عديدة للتوفيق بين العقل والنقل، قد ضمنتها في معظم مؤلفاتي الفلسفية، مثل المنهج النقدي عند ابن خلدون، حتى المتصوف المعاصر أبو الفيض المنوفي الذي أراد إقامة تصوفه في البرهان الرياضي والدليل الهندسي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

راجعوا إن شئتم مؤلفي مشكلة الألوهية عند أبي الفيض المنوفي، وحديثه عن أدلة وجود الله.

وإذا ما تركنا الفلسفة الإسلامية واتجهنا إلى الفلسفة المسيحية بدءا من أوغسطين، مرورا ببطرس أبيلارد، وانسلم إلى توما ألاكويني، في قضية شائقة وشائكة وهي تخص العقل والإيمان من خلال أومن كي أتعقل؟ أم أتعقل كي أومن؟ وكان للعقل النصيب الأوفر عند توما ألاكويني الذي أقر بأسبقية العقل على الإيمان فقال أتعقل كي أومن.

ضرورة إعمال العقل

ونحن الآن أبناء القرن الحادي والعشرين ما قولنا في هذا المشكل العقل وأهميته؟ قضايانا المعيشة جد كثيرة وعويصة وحلها ليس صعبا ولا مستغلقا، لكن مع إعمال العقل والتفكير بتؤدة وسكينة وطمأنينة سنجد حلولا ناجعة لها. وإذا وما خرج من عقل إلا شانه ويكفيه فخرا ما قاله الله عنه: “بك أحاسب وبك أدخل الجنة وبك أدخل النار”.

فلا جزاء ثوابا أو عقابا لمن فقد عقله، وكذلك التفكير فرض عين على كل إنسان، لماذا؟ لأن العقل ميزة ميز الله تعالى بها الإنسان عن سائر المخلوقات، وكذلك له ميزة أخرى وهي الإرادة، فهل أعملنا عقولنا وفكرنا تفكيرا منطقيا سليما ولم ندع أحدا يفكر لنا؟ نفكر ونفكر ونتعقل. فالعقل أعدل الأشياء وهو قسمة بين الناس.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

ما بين العقل والإرادة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العقل الجمعي 

العقل والغريزة 

أ. د. عادل خلف عبد العزيز

أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

مقالات ذات صلة