مقالات

طعام الأكابر

أثناء زيارة «عزبة البرج» في دمياط لفتت نظري فوق مبنى شبه مهجور لافتة مصنع «إدفينا» لصناعة المعلبات والأطعمة المحفوظة، كانت شكوى مرشد الرحلة تتضمن امتعاضا من أن يصبح هذا حال المصنع الذي كان بـ (معلقتين خضار في علبة) شريكا في انتصار أكتوبر، وفي السويس كنا نتناول إفطارنا في مطعم فول بدا تاريخيا تحمل جدرانه صور مجندين قدامى، قال صديقي أن هذا المطعم كان أشبه بـ «ميز» الجنود أثناء حصار السويس ثم أضاف أن نصيب كل عسكري أو مواطن كان رغيفا واحدا يوم السبت وآخر يوم الثلاثاء. تذكرت المشهدين وأنا أجلس أحتضر جوعا في انتظار طعام الغداء بعد أن بذلت مجهودا كبيرا في ترتيب دولاب الملابس!

ظهر المشهدان في ذهني وفي الخلفية تساؤل عن «اللقمة» التي كانت تسند ظهور المقاتلين خلال معجزة الحرب، أفكر كيف كان طعامهم في هذه الشدة؟

حكايات أبطال الحرب مع العطش والجوع

تمتلىء حكايات أبطال الحرب عن مغامراتهم مع العطش والجوع، يحكي أحدهم أنهم على شط القناة كانوا ينتظرون المد والجزر في منتصف الشهر لأن الماء يلقي إليهم بكميات من «الجندوفلي»، أكلوه متضررين في البداية (بالذات الجنود غير السواحلية) ثم وقعوا في غرامه وكانوا يخزنونه أحيانا،

ويحكي أحدهم عن اختراعات تحلية ماء البحر بالغلي والتقطير وكيف كان الجنود يخلعون فلنكات السكة الحديد لتوفير أخشاب تكفي للمهمة، ويحكي آخر عن قوالب «الفولية» تعيين الطوارىء نجم اللحظات الصعبة، وهناك حكايات عن الاضطرار عند اشتداد الحصار إلى التهام الثعابين وبعض القوارض الجبلية، ويحكى أحدهم أنه في بعض الأوقات كانت الأوامر هي استهلاك الوجبة الواحدة على ثلاثة أيام، لكن يظل السؤال، كيف كانت الوجبة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

البسكويت الخشابي

كنت أفكر أن قرار العبور على هامش صيام المجندين يدعم بشكل ما التعود على أي خلل وارد في مؤن الطعام، فلم يكن الوضع في أفضل حال على الجبهتين الداخلية والخارجية، كانت أسعار اللحوم قد ارتفعت لندرتها، فبدأت النساء من بنى سويف حملة مقاطعة شعبية للحوم ثم انتقلت للمحافظات الأخرى بنجاح كبير حتى هدأت الأمور،

وعندما تم الانتصار كان الدعم الذي قدمته السودان لمصر هو 30 طنا من اللحوم، قبلها كانت الصين قد أسعفتنا بـ 1000 طن من القمح، كانت مصر تعاني من آثار النكسة، اعتمدنا على أنفسنا بشكل كبير وأصبح جزء كبير من دعم مؤنة الجنود يقوم على مصنع «قها» بمنتجاته المعلبة وكذلك مصنع «أدفينا » (الفول و البلوبيف والخضروات) ومخبوزات بسكو مصر،

لكن المهمة لم تكن سهلة، فقد كان مهما توفير القمح للاستهلاك ولمخزون استراتيجي أيضا، وكان واردا أن يفسر العدو استيراد القمح باستعداد مصر للحرب، فتم اللجوء لحيلة مخابراتية بتسريب أخبار عن الصوامع التي أغرقتها مياه الأمطار وتم تحويل الأمر إلى فضيحة إعلامية تم تحت ستارها استيراد كميات من القمح، ومع ذلك يحكي الأبطال عن هذه المخبوزات التي أسموها على الجبهة «البسكويت الخشابي» تعبيرا عن خشونة ملمسه ومذاقه، لكنهم لم يتمردوا عليها،

الخضار بالبسكويت

وعند اشتداد الجوع يفتش الجنود بين الرمال عن عبوات قد تكون سقطت من أحدهم أثناء القتال، ويحكى أحدهم عن طبخة « الخضار بالبسكويت»، كان يجمع بالملعقة الدهون المتكونة فوق «وش» علبة الخضار كأنه يستخدم سمنا للطبخ ويضعها في حلة مليئة بالماء ثم يفرك بداخلها البسكويت لكي «ينفش» في الماء ثم يلقي بداخلها حبات الفول مع الأرز مع الخضار، ويقول صاحب الوصفة «اللواء محسن علام» أن هذه الوجبة كانت مرادفا للسعادة.

لم تكن هذة الطبخة الساخنة متاحة طول الوقت وللجميع، لكن الحصول عليها كان أشبه بمكافأة، يحكي اللواء عبد اللطيف مبروك أن الطعام الساخن كان يحتاج إلى مقطورات طهي، ولم يكن هذا متاحا بوفرة أثناء الحرب، لذلك تم تحويل المتاح من هذه المقطورات إلى سلاح لرفع الحالة المعنوية للجنود قائلا: “كانت هناك محاولات مستمرة للوصول في نهاية اليوم بأي منتج ساخن وطازج للجنود يعوضهم عن المعلبات حتى ولو كوب من الشاي أو شوربة العدس أو بعض الخضروات، وكانت تصنع فارقا معنويا”،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فارق آخر كان يصنعه اقتحام السيطرة على دشم العدو المليئة بالمفاجآت التموينية مثل الثلاجات التي تضم المعلبات التي تحتوى كل واحدة على دجاجة كاملة مع الشوربة والمكرونة، ومعلبات قطع اللحم المطبوخة بالصلصة، بخلاف المربات والعصائر.

حصار السويس والبطل الشاب “علاء الخولي”

أثناء حصار السويس، والذى يعتبر انتصارا عسكريا مدنيا لولاه ما كانت معجزة 6 أكتوبر لتكتمل، كان الطعام والشراب معجزة حقيقية، بطلها شاب اسمه علاء الخولي كان قد انتقل للسويس مديرا للتموين قبل فترة، ومع بداية الهجوم على السويس والحصار وجد نفسه مسئولا عن طعام خمسة عشر ألف جندي ومثلهم من المدنيين، تحت قصف أحرق مخزن احتياطي الدقيق في المدينة، فقاد الناس لينقذوا 1400 جوال بعد احتراق ضعف عددهم واحترق معهم أيضا 22 طنا سكر ومثلهم أرز،

كان قراره بتخفيض وزن الرغيف وصرف واحد فقط يوم السبت وآخر يوم الثلاثاء لكل فرد، الطريف أن هذا العجز لم يمنع السوايسة من عمل كحك وغريبة عيد الفطر وتوزيعها على الجنود لرفع معنوياتهم مع الشاي الذي تم عمله في (حلل) كبيرة، وكانت هناك أزمة طاقة لكن المخابز دارت بـ «ديزل» السيارات الحربية،

وصرف الخولي أيضا لكل فرد من عهدته وعلى مسئوليته علبة خضار باللحم وعلبة سردين وباكو شاي ونصف كيلو سكر على أن يتم استهلاكها في 15 يوما، وقتها عرف الجنود والسوايسة أطعمة لم تكن أساسية، أصبح الطرشي والفول السوداني والبصل والبلح مع الخبز وجبات رئيسية، وبعد عدة أسابيع اكتشف أن هناك ما يقرب من ألف رأس ماشية ملك لأحد تجار اللحوم في المدينة موجودة ومخبأة في منطقة المجزر الآلي،

فصدر قرار بتوزيعها على الجنود والمدنيين مجانا، كيلو واحد بالعظم لكل 6 أفراد وذاق المحاصرون اللحم لأول مرة وقتها، أما الماء فقد شح المخزون وتنازل السوايسة عن حصتهم ليتم صرفها للجنود على الضفة الشرقية والمستشفيات والمخابز، وقرر السوايسة أن يحفروا بمساعدة ذاكرة المسنين الآبار القديمة التي كانت موجودة في المدينة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التقشف بوابة الفتح

هناك نظرية تبرر الحماقة بـ «الجوع و الحرمان» وتبرر التصرفات الطائشة ب «أصله صايم»، كيف كان أكتوبر استثناء هذه القاعدة؟ وهناك نظرية عسكرية تقول «أن الجيوش تزحف إلى الانتصار على بطونها» في تشديد على أهمية مؤنة الجندي في الحرب، لكن أكتوبر كان أيضا استثناء فقد كان الجوع مفتاح «التهام» العدو، وانظر كيف زحف أبطالنا؟

لقيمات صغيرة قوامها المواد الحافظة والمخبوزات الجافة وشوربة العدس الساخنة على سبيل رفع المعنويات كانت وجبة الانتصار في أكتوبر، هي معجزة، كان طعامهم أقرب لطعام المتصوفة الذي يقرأ الواحد عنه في الكتب، ويقول المشايخ أن «الجوع يفتح على العبد»، كان هذا التقشف هو بوابة «الفتح» فلا أحد ينكر أن ما قام به الجنود كان «كرامة».

……………………

مصادر:

كتاب «خفايا حصار السويس» حسين العشى – «سحر عربي.. المصري اليوم» – «منى مدكور.. الوطن» – «ممدوح دسوقي.. الوفد» – «ملحمة كبريت.. موقع البوابة» – «جمال طه.. الوطن» – «كتاب أخبار المصريين.. سعيد هارون عاشور»

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

زنـــازين

اضغط على الاعلان لو أعجبك

صوت القضية

على ضفة القنطرة

أ. عمر طاهر

كاتب ومؤلف

مقالات ذات صلة