مقالات

الخبر بين الادعاء والحقيقة

كنت في جنازة لشخص قريب لي وكانت المساجد مغلقة لتداعيات فيروس كورونا. كان هذا الرجل طيبا. وسار اليوم كأي جنازة، ولكن استوقفني شيء غريب لم انتبه له من قبل رغم تكراره أمام عيني فلم أستطيع أن أنساه، حتى أني تذكرته اليوم فقلت أخبركم بالقصة وما جال بخاطري حينها، بعد عودة الرجال من المدفن جلسوا بقرب زوجة المتوفى يواسونها،

فقال أحدهم وهو أخ لها “كان طيبا جدا، حتى كل شيء اتيسر قدامنا، حتى المسجد اتفتح له”، فسقطت تلك الكلمة في قلوب الناس ولم تسقط في عقولهم وكأن ما جرى كان إعجازا، وهنا لا ننفي أبدا أن هناك كرامات وتيسيرا للأمور بفضل الله على بعض عباده،

لكن ما استوقفني أن الصورة نقلت بتضخيم، فأنا كنت شاهد عيان لتلك الواقعة، ومجريات الأمور ينقصها الكثير من التفاصيل، فقد كان هذا المكان بعيدا عن تدقيق الأمن، ومتطرفا قرب الجبال، ولا يكاد يوجد أي تغيير لنمط الحياة بسبب كورونا هناك، لأنهم بكل بساطة بعيدون عن الأماكن القائمة فيها الضوابط الأمنية.

وحتى لا نغوص في الكثير من التفاصيل دعونا نخرج بالفكرة المقصودة ونطرحها على ميزان المنطق ونحللها عقلا لنقف على بيانها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل حينما يُنقل إلينا خبر ما ينقل بكامل تفاصيله؟ أم يصيب الخبر التهويل أو التقليل لحقيقة المجريات التي جرت في نقله؟ هل نقل كما كان دون أن تأخذ الناقل أية عصبية لأن يهول منه أو يقلل منه حين ينقله؟ وماذا عن الكلمات ذاتها التي قيلت؟ هل تم نقلها كما هي بألفاظها أم تم استخدام ألفاظ أخرى من ناحية الناقل؟ ماذا عن المعنى هل وصل للناقل المعنى المقصود حقيقة أو أن تصوره أشابه الخطأ فصدق ونقل ما فهم؟

كيف يتعامل البعض مع ما يُنقل إليه من أخبار؟

ولنبين أسئلتنا تلك لنفترض مثالا توضيحيا، لو كنت جالسا مع مجموعة من الأشخاص منهم من تعرفه ومنهم من لا تعرفه وقد أتانا أحد بخبر أن هناك سيارة على بداية الشارع الذي فيه مجلسنا قد صدمت أحد السائرين، وبدأ يقص لنا ما شاهده، أن صاحب السيارة كان مخطئا لأنه صدم السائر دون رحمة، وأنه كان الأجدر به إصدار تحذير ضوئي وصوتي لينبه من حوله.

وكان ناقل هذا الخبر شخصا مقربا لبعض الذين يجلسون معنا فراح كل منهم يقول “لابد أنه يتكبر لأنه يقود سيارة وقد صدمه فعلا بلا رحمة” واستمروا في قولهم على هذا النحو، وقام آخرون ممن لا يعرفون الناقل بقول حكم مخالف لهم “من الممكن أن يكون السائق لم يخطئ والخطأ كان من الرجل الذي يسير على قدميه”.
وهنا نجد أن الفريقين انقسما، أحدهما يقول أن الخطأ من السائق، والفريق الآخر يقول أنه خطأ الذي يسير على قدميه، وبدأ كل منهما يأخذه غضبه للدفاع عن رأيه.

ما ظهر لنا في تلك القصة هو نقل خبر ما قد تم حدوثه بعيدا عنا، وبعد أن حدث وانتهى نُقل عن طريق ناقل في صورة خبر ، والناقل هذا كان له تصور وفهم معين لما حدث، وبالطبع هذا أثر على طريقة وتفاصيل نقله للخبر. فلما إذن نأخذ الخبر ونصدقه وكأنه لا عقول لنا؟!

هل لن يغير اللفظ معنى جملة ما حين يتغير؟ أو حتى أن اللفظ أو الحدث المنقول كان المقصود من ورائه قد فهمه الناقل؟ وكذلك إن تم اجتزاء قول أو جزء من الحدث هل يكتمل معناه بعد ذلك؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما الواجب على كل عاقل

وهنا يأتي واجب ضروري على كل عاقل، أن يتحرى صدق الناقل و مصدر أي خبر وأن يتسلح بقواعد تتيح له القدرة على فهم حقيقة المقصود والذاتي في القول والأصل في المعنى وبين العارض عليه والزائد وما لا أهمية له فيه استنادا على الذاتي في المفهوم وبترتيب سليم للمعلومات وصولا للمعنى الحقيقي للمفهوم، وتواتر للخبر بحيث تتعدد المصادر للخبر من أكثر من طرف ولا يجمع تلك الأطراف أية مصلحة كانت حتى لا يتواطؤون على الكذب مما يصل بنا إلى الخبر اليقيني.

ولهذا دعونا نشير إلى ما أشار إليه فلاسفتنا الذين طالما نقلوا لنا الأخبار وعلمونا قبلها علم النطق والكلام وأفهمونا قبلها مبادئ التفكير وموانعه، فعلمونا الصيد ولم يعطونا السمك ومنحونا القدرة ولم يكتفوا بالنقل، وكانت علومهم ترتكز في المقام الأول على علم المنطق حيث يعد العلم المدقق في أصل المعاني والباحث عن الحقيقة بالدليل الواقعي بالتواتر للخبر كما سبق ذكره.

فكان لهم طيب الأثر فينا حتى لا نكون ممن ينجرف في تصديق أي ادعاء أو أي خبر دون أن يستوثق منه، فلهم منا كل تقدير واحترام رحمة الله عليهم والسلام.

 اقرأ أيضا:

التفكير العلمي والتصدي للشائعات (1)

الثقة المغشوشة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف نحكم على الأخبار التي تصل إلينا؟

محمد سيد

عضو بفريق بالعقل نبدأ أسيوط

مقالات ذات صلة