إصداراتمقالات

مأساة المجتمع الأزرق

جيل الثمانينات جيل تعيس جدًا…

فهو جيل نشأ في أسرة ساداتية، بمعنى أسره تكونت في عصر السادات، عصر الانفتاح حيث خلع القيم المجتمعية واليسارية والتحلي بالقيم الغربية والمادية والتحررية، جيل كان والداه أو أحدهما سافر إلى بلد عربي من أجل حفنة ريالات، جيل لم يجد متنفسا يعرف عن طريقه تهذيب النفس وانغمس مباشرة في الهوس التكنولوجي والجنسي والأنيميشن وهوليوود والووكمان والأتاري الأسود أبو زرار أحمر.

ونتيجة لتلك الظروف الخاصة نجد الناتج لها متنوعا ومتطرفا كأنك أخذت من كل عصر غرفة بيدك ثم كدستهم في قرطاس واحد، الشباب الذي تربى في ظل الصدمة الحضارية وعرف قيمة التحرر والتمرد ورفض السلطة، أو شعر بكم الفساد الأخلاقي والتهتك والتجأ إلى الدين، أو اتسعت عيناه وانشكحت أساريره وانغمس في تلبية شهواته وعاش من أجل تحصيل سعادة الوهم.

إذا نظر كل منا إلى وضعه وإلى الدوائر التي حوله سيتفهم الأزمة التي نحكي عنها، الأب والأم اللذان يتمتعان بالقيم المادية النفعية ومُضاف عليها الصبغة الدينية المصرية السطحية -الموروثة من جد وجدة كانا يعيشان في مصر القديمة، دائرة الأصدقاء التي بها المتدين والملحد والوسطي والهوائي، الجامعة أو محل الدراسة أو العمل التي تشبه كتالوجات الموضة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أزمة هذا الجيل تكمن في إنه وجد نفسه في عصر تخلى عن المفكرين أو لا يوجد به مفكرون، عصرٌ النخبُ فيه هم نجوم السينما، وأصبحت مقولاتهم وأفعالهم هي المثل الأعلى، فمشى ورائهم من مشى، والبعض الآخر شعر بذلك الفراغ الروحي والجوع النفسي ولكنه لم يجد أيضًا معاصرين مفكرين فلجأ إلى كتب التراث وتعلق بمجد الأموات وقرر أن يحيي العصر الذهبي ويجعله يحل في هذا العصر، وهناك سعيد الحظ الذي وجد بالفعل قادة روحانيين و”مفكرين” ولكن هؤلاء أيضًا لم يقدموا جديدًا فخلطوا الماضي الذي اعتلاه التراب وجاءوا بالحاضر الذي يمتاز بالسيولة والميوعة فأنتجوا طينًا ومسخًا تحت عنوان النهضة والتنمية والحداثة.

الإنسان العاقل يعلم أنه فقير وجاهل فيلجأ للعالم ينهل منه ويتكامل، فطبيعة الإنسان أن يبحث عن قيادة ويلتحق بها، وفى الحقيقة من ينكر هذا فهو ينكر طبيعة بشرية، فكما قال الحكماء ما من إنسان إلا وهو رئيس من جهة ومرؤوس من جهة، حتى الشباب الذي ينكر هذا-وهو غالبًا من الشباب الملحد أو العلماني- نجده يحتج ويقرأ لعلماء أو مفكرين ملحدين أو علمانيين، فهو ليس كلي العلم فذهب إلى “غيره” لينهل منه، اقتدى به في المعرفة.

مشكلة عصرنا أنه “مالوش كبير”، مفيش علم أو معرفة يمثلها شخص أو كيان أو حتى قانون ثابت، كل شيء تم التشكيك فيه وقبِل التأويل وهبط من اليقين للظن، حتى الدين ليس له كبير، فأفتى فيه من أفتى وأنكر من أنكر وقال من قال إننا لا نحتاج لمتخصصين بل يمكننا أن نستخرج ما نحتاجه من النصوص، ولهذا نجد الشباب يتعرض لأسئلة وأزمات ولا يعلم إلى من يذهب وفي من يثق.

فكان من الطبيعي أن يظهر الفيسبوك ويرتمي جيل الثمانينات في أحضانه، المجتمع الأزرق الذي محوره أنت وأنت وحدك، المجتمع الذي ينمى “الأنا” ويجعلك مستغرقًا في الحوادث الجزئية والأمور الساذجة التي تضر ولا تنفع، المجتمع الذي يصدر وهم الإنجاز ويفصلك عن العالم الحقيقي ويجعل لك وجودًا رقميًا

وكان من الطبيعي أن يزيد الانفصال وحب الذات فيظهر السيلفي، فبعد الزمن الجميل الذي كان يصطف فيه الشباب ويقوم آخر بتصويرهم أصبحت الصور عباره عن مشهد رأسي وفى نهايته مجموعة من الرؤوس التي تبتسم في بلاهة، أو لو كنت متطرفًا أو مصابا بالذهان فتقوم بتصوير نفسك كل خمس دقائق وفى كل دورة مياه وبجانب كل نصب تذكاري، تسجل يوميتك بشكل صور والصور تتكدس فتشعر أنك مهم ولديك وزن وقيمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي النهاية لا توجد سعادة، فيصبح جيل الثمانينات المجتمع الأزرق، والأزرق بمعنى الحزين الذي لا يعلم من أين وفي أين وإلى أين فيزداد إزرقاقًا حتى يتحول للأسود ويتجه للفيسبوك يكتب الستيتس التاريخية الأخيرة ويتجه لدورة المياه ويأخذ السيلفي الأخير ويقطع شرايين يده.

الآن كفى حزنًا، ارفع رأسك، كفكف دموعك، استبدل القهوة المرة بأخرى بها شيء من السكر وأضف عليها بعض اللبن، تطهر بدنًا وروحًا وابدأ حقبة جديدة، حقبة تكون أنت الفاعل وليس المفعول به والمُستغل، لا يوجد قيادات أو نخب؟ لا يهم، أنا شاب الثمانينات نُخبة وقائد، فلاتّجِه إلى المكتبة وأخرج المعارف وأتعلمها وأهذب نفسي، ولاتّجِه للمجتمع الأزرق وأحوله من مكان للتائهين إلى نبراس ومنارة وساحة للفكر، لأجعلن العالم كما يجب أن يكون ولن أتركه كما هو كائن، سأجد من هو مثلي ولن أحيط نفسي بالأطياف والمنتفعين، لأحولن ظلام العالم إلى باحات من الأنوار.

مقالات ذات صلة