مقالاتقضايا وجودية - مقالات

لما حدث هذا؟ فلنبحث عن الأسباب 1، هل الإنسان محور الكون؟

الإنسان والبحث عن  الأسباب

يتخبط الإنسان بين طبيعته المنتمية بعجزها للكون، وبين طبيعته القادرة على معرفة القوانين؛ فإما أن يغتر بقدرته على المعرفة، فيظن أنه أعلى قدراً من كونه إنسان منتمي للكون، مميز بالقدرة على المعرفة والابتكار، أو يركن لحقيقة خضوعه  للقوانين، فيتخلى عن مقامه لمقام أدنى.

الاتجاه المغرور

أما المغرور بقدرته على المعرفة،  تكون غاية معرفته  السيطرة والقوة،  فيظن أنه لما يعرف القوانين الحاكمة للكون، يمكنه التحكم في الكون، وما الإله إلا متحكماً في الكون، فما حاجة الإنسان لوجود الإله إذا علم  الأسباب كلها !  بل يذهب إلى أبعد من ذلك، يذهب إلى أن الإيمان بوجود إله يعطل مسيرته العلمية ! الاعتراف بالإله يجعله يخسر المعركة أمام الإله! جهل إنسان العصر الحالي، يُقره العلماء أنفسهم كلما ازدادوا علما. هذا الجهل دافع لاستمرارالمعركة ؟! أم أنه ينبه الإنسان لحقيقة ما؟!

هذا الاتجاه حسر الإله في أنه حاكم للكون، وجعل من الإنسان كائن ينازع الإله في حكمه، ووسيلته في النزاع هي المعرفة.  تصور خاطئ عن الإله، وجهل بحقيقة عجزالإنسان التكويني والمعرفي؛ المادي والمعنوي. فكمال الإله يغنيه عن الكون بما فيه ويعليه عن أن يدخل صراعاً مع مخلوق له !

فهو لم يخلق شيئا في الكون ليصارعه، إنما خلق الكون بما فيه تجلياً لعدله وحكمته وعلمه ورحمته. وخطورة هذا الاتجاه أنه بهذه الرؤية لنفسه وللكون، مضطر لتقسيم الإنسانية فمجموعة منهم تسيطر باعتبارها تعلم الأسباب، وأخرى يتم السيطرة عليها باعتبارها جزء من الكون ! ما الإنسان عندهم إذن ؟! مسيطر أم فاقد للسيطرة ! ازدواجية معايير. هذا الاتجاه السعادة عند علمائه في مزيد من المعرفة، وهذا عظيم،  لكن المزيد من المعرفة من أجل ماذا؟! نهم المعرفة لا ينتهي لكن ما غاية المعرفة!  وإذا برأنا العلم والعلماء المجتهدين في مجال التجربة فحسب من سوء استخدام القوى العالمية  للمعرفة، فإن أزمة عالمنا لن تجد طريقا للحل !

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما عند جمهور هذا الاتجاه، فالسعادة عندهم تساوي السيطرة على الأشياء، ولأن الأشياء مادية، فالسعادة بها مؤقتة، أي سعادة غير حقيقية ، فيضطر لتحقيق سيطرة أكبر ليسعد مؤقتاً، وهكذا… سلسلة من حلقات وهمية.

الاتجاه العاجز

أما الاتجاه الثاني  فهو يخضع لحقيقة انتمائه للكون؛ حقيقة عجزه وافتقاره؛ ويضع جانباً حقيقته الأخرى الملازمة له، وهي القدرة على معرفة الأسباب . ولأنه مدرك لعجزه فقط، يجد نفسه مضطرا لتأليه الأسباب نفسها! ينزل البحر يوماً بسفينة فيعود بصيد وفير، وينزل مرة أخرى فتقابله الرياح العاتية وأمواج البحر العالية فتتدمر سفينته، ويصيبه الفزع،  وإن نجا وعاد للبر يخاف العودة للبحر ثانية ! وربما يعبد البحر أو الرياح ! إن ظلمه أحد يتعلل بعجزه، وأن الأسباب بيد الإله، ويرضى بالظلم، وربما يعبد ظالمه! إن أصابه مرض فهذا من عند الإله، وهو قانع بعجزه ومكتفي به ! وإن علم غيره بأسباب مواجهة الرياح أو الشفاء من مرض، يجد نفسه مضطراً لتعظيمه ! فيزداد المعظَم تمسكا بإدراكه الخاطئ، ويتمادى في رغبة السيطرة!

هذان الاتجاهان يظن كل منهما أنه على صواب،  فالأول حلمه السيطرة، وأصبحت سعادته في المزيد منها ! والثاني يظن أن تمام التسليم (أوالاستسلام  بمعنى أفضل) هو غايته! وهو سعادته ومصدر اطمئنانه الدنيوي والأخروي !

وبين إنسان بالغ في قدره وقدرته  فتغطرس، وآخر خضع لعجزه وتنازل عن قدره؛ يتخبط العالم، فلم يعد يمر يوم بأمان على عالمنا!

هل يمكن أن يوجد اتجاه ثالث ؟

أما الاتجاه الثالث، الذي نرغب أن يسود عالمنا، هو إنسان يعلم قدره وقدرته، يعلم طريق السعادة الحقيقي ويسعى فيه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في البداية،  ذكرنا عجزالإنسان الجسدي، وعجزه عن الاكتفاء بذاته  مادياً ومعنوياً، فإن اعتماده على غيره من الجماد والحيوان والإنسان ضرورة ؛ فهذه  طبيعة الكون المنظم الذي تتفاعل مفرداته العاجزة فيكتمل بعضها ببعض. وواضح تميز الإنسان بقدرته العقلية الباحثة عن الأسباب ، وقدرته على إدراك معنى الرحمة والعدل والحكمة الإلهية المتجلية في نظام الكون. فإذا علم الإنسان حقيقة عجزه، وحقيقة إدراكه، والتزم بهما معاً دون توهم تعارض بينهما، صارت خطاه متناغمة مع الحقيقة.

يسعى العاجز متعكزاً على عقله ليدرك في أي طريق تكمن سعادته الحقيقية المتصفة بدوام أثرها في النفس، وفقاً لما أدرك من حقيقة الكون وحقيقة نفسه. واستناده على عقله (الذي يمكِنه من التجريب والاستنتاج وإدراك المعاني وهكذا…) يجعله يوازن بين شِقَي طبيعته المادية والمعنوية، مُنتهياً إلى نظام في حياته يشبه نظام الكون في عجز مفرداته، مُظهراً في مجمله معنى العدل والحكمة والرحمة. وعندئذ لا تكون تلك المعاني الظاهرة في أفعال الإنسان من ابتكاره هو! الإنسان يبتكر نُظماً صناعية من البيئة  تحكمها قوانين الكون فحسب، وهو لا يملك القوانين؛ هو فقط يعرفها. وأيضا لا يبتكر بتصرفاته وأفعاله معاني العدل والحكمة والرحمة ! كلها تجلي لصفات الإله على الإنسان ومجتمعه، كما تتجلى هذه الصفات في بديع صنع الكون.

البحث عن الأسباب المؤدية للسعادة:

  • الجسد

نعود لحياة الإنسان العاقل في عالمنا …كيف تكون في مُجملها  لينال سعادة حقيقية؟

السعادة تكون حقيقية، لما تتصف بالدوام لا الوقتية الزائلة. وبداية من جسد الإنسان، فعلى العاقل أن يحفظ جسده من الأذى، بتوفير ما يُعينه على الحياة من طعام وشراب، وثياب ومأوى، ويسر في الحركة، وإن أصاب شيء من احتياجات جسده الأساسية نقص أو أصاب جسده تعب أو مرض، فإنه يسعى بعقله في البحث عن أسباب الخلل، ويحاول إصلاحه  والتقصير في ذلك تراجع للعقل.

وليس القصد من ذلك  المحافظة على قوة الإنسان الجسدية ليقدرعلى الاستمتاع بلذة مادية مؤقتة؛ فهذا يضع الجسد في دوامة من الصحة، ثم التعرض لمسببات تهدر الصحة، ثم محاولة استعادة الصحة، وإن نجحت المحاولة، تعرض الإنسان من جديد لما يهدر صحته .. وهكذا. وليس القصد أيضا أن نعرف كل  المشكلات الحالية والممكنة في المستقبل، وبذلك نضمن أن الإنسان لن يصيب جسده الخلل فيبقى حياً!  فطبيعة عجز الإنسان الجسدية والمعرفية تحول أمام ذلك. إنما القصد هو سلامة الجسد، والحفاظ على أعلى كفاءة له أطول فترة ممكنة في حياته كأول درجة في سلم ارتقاء الإنسان نحو إنسانيته الكاملة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعد سلامة الجسد التي لا يمكن الاستغناء فيها عن العقل، يُكمل العقل دوره في اصطحاب الإنسان لطريق سعادته الحقة، فيعرف أسباب سلامة النفس من الشرور، ومنها الترفع عن مسببات السعادة اللحظية،  وهي كثيرة ومرتبطة بالجسد، وكثرتها مهلكة للجسد، وتدفع الإنسان إلى ظلم الآخر في سبيلها، فلا توقف الإنسان عند أول درجة في سلم تكامله فحسب، إنما تعود به إلى الصفر أو ما دونه.

  • النفس

والإنسان حين يستعين بعقله على نفسه، فلا يسمح لها بالشرور، يُبرئ نفسه من المشاركة في صراعات العالم وشروره، لكن ليست البراءة الفردانية  هي نهاية الرحلة، خصوصاً أن الإنسان يمكنه أن يحدد نفسه بعلاقات بسيطة جداً، فلا يضطر لملاقاة الكثير من المواقف التي يختبر فيها حقيقة نفسه، فيظن أنه بذلك وصل لكماله الإنساني ! إنها معاهدات سلام المستضعفين التي لن تصنع فارقاً ذا قيمة في حياة الإنسان نفسه أو في حياة غيره، فإلى متى يظل العالم هكذا؟! بالتأكيد لن تصلحه وحدك ولن أصلحه وحدي أيضاً. فلنكمل الطريق!

عالم يخلو من الظلم ! … بالتأكيد هذا ليس عالمنا الذي نعيش فيه، ومن فضَل مصاحبة عقله، والتغلب على شرورنفسه،  سيلاقى ظلماً واقعاًعليه، لأنه موجود في عالم كهذا! فهل ظلم الآخر له  يعتبر خلل؟! نعم خلل ويحتاج لمعرفة أسبابه والسعي في إبطالها.

فالظالم إما أن يكون ظلمه عن جهل، أوتمّلك الظلم منه؛ والحد من الظلم أياً كان سببه يبدأ بالعقل القادر على المعرفة. العاقل يعرف حقيقة الكون وحقيقة الإنسان والسعادة الحقيقية، فعندما ينبه الآخر لكيفية الوصول إلى الحقيقة، سيزداد عدد العقلاء في عالمنا، ويقل الظلم بين البشر.

أما إذا كان الظلم متملكاً من الظالم، ولا سبيل لسلطان الحقيقة في نفسه، فالحل أيضا يبدأ من العقل القادر على معرفة  الأسباب والقوانين التي تحكم العلاقات بين مفردات  الكون ، والاستعانة بها في تسخير المفردات لتحقيق قوة لا بغرض السيطرة، وإنما بغرض دفع الظلم ونشر العدل. ليست القوانين التي تحكم الطبيعة فقط، وإنما التي تحكم علاقات البشر ببعضهم وبماضيهم وحاضرهم، وعلاقات المجتمعات ببعضها. وبهذا يرتقي الإنسان ويعلو على عجزه قليلاً بعقله، فيصير طموحاً إلى مجتمع إنساني منظم، مثل الكون المنظم  تتجلى فيه معاني العلم والحكمة والرحمة الإلهية. وما العقل حينها إلا عطاءٌ إلهي خالص أحسن الإنسان استخدامه،  فنال سعادته الحقيقية الدائمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً:

العاجز الطموح: التساؤل

لم أجد السعادة إلا في البساطة

رتب دماغك تنعم بحياتك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

مقالات ذات صلة