فن وأدب - مقالاتمقالات

باب الحديد

رغم عدم حبي للغموض في أفلام يوسف شاهين، وأنه تعمد صبغها بطابعه الشخصي إنسانًا وليس حتى فنانًا، إلا أنه يجب الاعتراف بأن فيلم “باب الحديد” من أروع الأفلام، وهو مصنف رابع أهم فيلم في تاريخ السنيما المصرية، وهو أجمل أفلام يوسف شاهين على الإطلاق، رغم أن معظم الناس لم يفهمه بالشكل الصحيح حتى الآن.

ما هي قصة فيلم باب الحديد؟

موضوع الفيلم ليس هنومة ولا خطيبها فريد شوقي، بل قناوي الشخصية الفقيرة المعدمة لدرجة التهميش التام، ولدرجة أنه ليس من حقه بسبب شدة الفقر مجرد النظر إلى أنثى، علاوة على التفكير في الزواج، فهو حلم غير ممكن.

لكن حرمان المواطن من أبسط حقوقه الإنسانية وتعذيبه على هذا النحو، من الطبيعي أن ينقلب إلى كارثة تدمر المجتمع كله، وهكذا فقد بائع الجرائد المتجول عقله، وهكذا ذهب ليقتل هنومة ويحرق قلب أبو سريع.

عبد الحي أديب هو المؤلف لكن يبدو أن يوسف شاهين هو الذي حول السيناريو إلى هذا الإسقاط العميق على الواقع، الفيلم عبقري في تناول الظلم المجتمعي وكيف أن هذا الظلم سيدمر المجتمع في النهاية، لهذا فهو مثال على تحول السنيما من أداة للتسلية إلى أداة لنقل الأدب والفلسفة إلى الناس العاديين، وهذا ما يعطي فيلم باب الحديد قيمته.

قناوي في فيلم باب الحديد

أحسن يوسف شاهين بتمثيل دور قناوي بنفسه، فهو دور متفرد في السنيما المصرية وأداء وجه جديد له يبلور هذا التفرد أكثر، خصوصًا وأن يوسف شاهين كان يشعر بالشخصية جدًا وقدمها ببراعة خيالية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

طبعًا عندما تقرأ ملخص الفيلم في أي جريدة أو مجلة أو موقع على النت لن تجد هذا الكلام، بل ستجدهم يقولون: “يحكي الفيلم عن هنومة وخطيبها أبو سريع اللذين يتجهزان للزواج، لكن قناوي المريض نفسيًا يحقد عليهما ويقرر قتل هنومة”، هكذا بكل بساطة وتسطيح يلخصون واحدًا من أهم الأفلام!

الفن الحقيقي يحمل إليك رسالة، ابحث عن الرسالة دائما ولا تبحث عن مجرد التسلية. لقد مثل فيلم “باب الحديد” علامة فاصلة في تاريخ السينما المصرية وفي مسيرة يوسف شاهين الإبداعية، فشخصية البطل البائس المعاق المنحازة للفقراء مع عرضها بأسلوب نفسي واجتماعي وإنساني كانت حالة غير مسبوقة في السنيما، مع اختيار محطة القطار مسرحًا للأحداث وليس كما تعود المشاهد على مناظر صورت في الأستديوهات.

حقوق العمال في فيلم باب الحديد

باب الحديد

إضافة إلى وجود جريمة قتل نتيجة للدوافع النفسية المأساوية، التي تمس شريحة كبيرة من الناس، كل ذلك ميز الفيلم عن كل ما كان يعرض وقتها من أفلام، وأسس في السنيما لواقعية إنسانية فلسفية فيها جرأة رغم المحاذير السياسية وقتها عام 1958، إذ كانت مصر تمر في ذلك الوقت بعد ثورة يوليو بأزمة العمال، وثورتهم واحتجاجاتهم على إعدام ثلاثة منهم لدوافع سياسية غير عادلة.

قصة الفيلم تحث العمال على إنشاء نقابات للحصول على حقوقهم في مواجهة السلطة، وكان وزير الداخلية وقتها وإدارة الأمن العام بصدد إيقاف ترخيص عرض الفيلم، لكن إجازته من الرقابة حدثت قبل اتخاذ قرار الإيقاف، فكاد ذلك أن يضع مدير الرقابة وقتها وهو الأديب يحيى حقي في مشكلة عويصة لأنه أعطى الإجازة، فتم تصوير المشاهد وإنفاق المال بناء على ذلك، فخشي أن يعود عليه صناع الفيلم ووزارة الثقافة بطلب التعويض.

لكن تصوير الفيلم تم بسلام، إلا أنه في يوم عرضه على الرقابة للحصول على إجازة ما بعد التصوير، حدث شجار كبير بين يوسف شاهين ومندوب وزارة الداخلية، الذي كان قد طلب منع المشهد الذي يتحدث عن ضرورة تكوين نقابة للشيالين، لكن يوسف شاهين وقف بعنف ضد ذلك معتمدًا على أن القانون يجيز تكوين النقابات العمالية.

سر حبس يوسف شاهين

مما لا يعرفه كثيرون أنه كان من المقرر أن يقوم الفنان محمد توفيق بدور “قناوي”، وقد تقاضى بالفعل مقدم أجره عن الدور، لكن هند رستم أقنعت يوسف شاهين بأن يمثل شخصية قناوي بنفسه، فوقف يوسف شاهين أمام الكاميرا ممثلًا لأول مرة في حياته، مما أوقفه أمام محكمة الجنح بتهمة مزاولته مهنة التمثيل دون انضمامه إلى النقابة أو الحصول على تصريح منها بالتمثيل، وهو ما عرضه لعقوبة الحبس ثلاثين يومًا مع غرامة خمسين جنيهًا.

أيضًا قد لا يعرف الناس أنه كان مقررًا أن يقوم محمود مرسي بدور أبو سريع بدلًا من فريد شوقي، لكنه اعترض على ضآلة أجره مقارنة بأجر هند رستم، فتم إسناد الدور إلى فريد شوقي، وكان أحد أهم أدواره في السنيما.

باب الحديد من الفشل إلى رابع أفضل فيلم في تاريخ السينما

قد يفاجَأ البعض بمعلومة أنه عند عرضه لأول مرة في عام 1958 لاقى فشلًا جماهيريًا ذريعًا، ولم يُقبِل الجمهور عليه رغم من فيه من أبطال، أبرزهم “ملك الترسو” فريد شوقي، ولم يفهم الفيلم إلا فئة المثقفين.

كما أن المشاهد العادي الذي كان يُقبِل على أفلام فريد شوقي لأنه البطل الخارق الذي لا يقهر لم يجده كذلك في هذه القصة، مما أحبط الجمهور وجعله يُعرِض عن مشاهدة الفيلم، فتم رفعه من دور العرض بسرعة، وهذا ما شكل صدمة ليوسف شاهين والمؤلف عبد الحي أديب.

لكن الحالة العجيبة النادرة في تاريخ السنيما أن الجمهور أحب الفيلم بعد ذلك بسنوات طويلة، ليحتل “باب الحديد” بعدها المكانة الكبيرة التي احتلها كونه رابع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية.

مقالات ذات صلة:

فيلم فضل ونعمة

الفيلم المصري بين السرقة والتزييف

مناقشة لأحداث فيلم ” الدائرة ” 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف