مقالات

القرآن حينما يربط الإحاطة الإلهية بالرعاية الإيمانية

دائمًا ما ينطلق القرآنُ بالإنسان من الموجود المادي ليصل به إلى ما لا تدركه الأبصار لكنه أصل الوجود، وفي حالتنا الموجود المادي هو “الإحاطة الإلهية للكون بكل ما فيه”، وما لا تدركه الأبصار لكنه يمثل أصل الوجود هو “الرعاية الإيمانية من الله لأوليائه”.

يتجلى الربط واضحًا جليًّا بين هذين الأمرين في آيتينِ كريمتين من سورة يونس قرأ بهما القارئ قبل صلاة الجمعة، إذ جاءت الأولى منهما بيانًا للإحاطة الإلهية بكل ما في الكون من صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو خفية، وجاءت الثانية مُرتِّبةً على ذلك الرعاية الإيمانية للذين تولوا هذا الإله العظيم، وها هو تفصيل ذلك:

أولًا: الإحاطة الإلهية

يقول المولى تقدست أسماؤه وجلّت صفاته: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، ففي هذه الآية تتعدد مظاهر الإحاطة الإلهية بالخلق، وهذا بيانها:

  1. بدأت الآية برصد أصول أعمال الخلق التي يتقلبون بينها، تلك التي تدور بين: قصد غير معلن، وفعل معلن، على النحو الآتي:
  • أما القصد غير المعلن، فهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ إذ قال المفسرون: (الشأن) هو القصد أو الحال، ولا يخفى أنه غير معلن.
  • وأما الفعل المعلن، فهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾، وقد جاء التعبير عن الفعل بذكر تلاوة القرآن أولًا، لكونه أشرف الأعمال، قال المفسرون: (خُص من العموم، لأن القرآن هو أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم)، ثم تبع تلاوة القرآن ذكر الأعمال عمومًا: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾.
  1. ثم بينت الآية شمول الإحاطة الإلهية بأعمال الخلائق بظواهر تركيبية ملحوظة، وكلمات ملفوظة، على النحو الآتي:
  • الظواهر الملحوظة: هي ظواهر تركيبية تمثلت في:

أولًا: أسلوب القصر: إذ النفي والاستثناء تكرر مرتين: في ﴿وَمَا تَكُونُ فِي… إِلَّا كُنَّا…﴾، وفي ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ… إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، ذلك الذي يفيد عموم الإحاطة وشمولها، إذ إن الأول منهما متعلق بالإنسان، والثاني متعلق بعموم المخلوقات، ولأن الإنسان هو المقصود بالخطاب ههنا فقد بدأت الآية بذكر الأرض قبل السماء، فقالت: ﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، وهذا على خلاف المعتاد في أغلب القرآن حيث تقديم السماء على الأرض.

ثانيًا: التعبير بحرف الجر الزائد (من) قبل كلمتي: (قرآن، وعمل) ذلك الذي يفيد التوكيد لمعنى الإحاطة الشاملة، فما من عمل إلا والمولى عليه شاهد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  • الكلمات الملفوظة:

أولًا: ﴿ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾، والتعبير بالفعل: ﴿تُفِيضُونَ﴾، عن مباشرة الإنسان للعمل يحتاج وقفة تأملية، إذ إنه متكرر في القرآن، انظر: النور14، والأحقاف8، وهو دال على أمر جلل مفاده أن مباشرة الأعمال وإن بدت في ظاهرها محض فعل أو قول يأتيه الإنسان، مستخدمًا إحدى قواه، إلا أنها في العمق اختلاط كيان بكيان، الكيان الأول هو الإنسان بما له من ملكات وقوى، والكيان الثاني هو العمل أيًا كان مجاله أو درجته أو حكمه: حسن أو قبيح، وهو ما يعني أن ملكات الإنسان وقواه تتأثر بما يمارسه الإنسان من أعمال كما يتأثر الماء حينما تفيضه في إناء نظيف أو متسخ مثلًا بمثل، وهو ما يحمل في طيه تحذيرًا خفيًا لصاحب كل عمل، أن يُراجع أعماله، ويقف على آثارها التي تركتها فيه.

– ثانيًا: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، يعزب: أي يغيب، مثقال ذرة: أي وزن صغار النمل، فإذا كان قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ﴾ إثباتًا للشهود منه سبحانه، فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ نفي للغياب منه سبحانه، وهكذا صيغ المعنى بين قالبي النفي والإثبات شأن شهادة التوحيد.

ثانيًا: الرعاية الإيمانية

إذا كانت الآية الكريمة السابقة قد بثت في نفوس متلقيها تمام الإحاطة الإلهية تلك التي تشمل المكان حيث الأرض والسماء، والأفعال حيث الظاهر منها والغائب، فإن الآيات التي بعدها ستطرح الرعاية الإيمانية من الله لأوليائه، بوصف هذه الرعاية لازمة عن تلك الإحاطة الإلهية، على النحو الآتي:

  1. ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، إذ استُفتحت الآية في إثبات هذه الرعاية بأداة التنبيه والتحقيق (ألا) التي تنبه المتلقي إلى ضرورة تحقق المترتّب على هذه الإحاطة الإلهية المشار إليها في الآية السابقة، ألا وهو أن ﴿أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ولا يفوت الآيات أن توضح أصحاب هذه الرعاية الإلهية بأخص صفاتهم، وهو: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

قد يبدو لفظ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ فضفاضًا في نظر بعضهم يشمل كثيرين، لكنني أتصور أن الذي يدرك حجم الإحاطة الإلهية في الآية قبل السابقة، هو الذي يعي مدى عمق قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ويعي دقته، إذ إن الناس على قدر استحضارهم لهذه الإحاطة الإلهية، سيكون فوزهم بهذه الرعاية الإيمانية، وهذا أمر تتفاوت فيه القوى الإنسانية، بيد أنها على تفاوتها لا تخرج عن وصف: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، وبيان ذلك أن علمهم بدوام إحاطة الله بهم سرًّا وعلانيةً، سيصير هو الموجّه الأكبر لهم في كل قول وفعل يفيضون فيه، ومن ثم سيدخلون في رعاية الله بقدر استحضارهم لإحاطته سبحانه، بإيجاز وفي كلمة واحدة: على قدر الاستحضار الإلهي في ما تفعل كله، ستكون الرعاية الإيمانية حليفًا لك.

  1. ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فالآية ههنا تزيد من بث هذه الرعاية وإثبات أنها متحققة في الدنيا والآخرة لأولياء الله.

هكذا القرآن دومًا يعقد ما بين الكون الكبير وهو العالم، والكون الصغير وهو الإنسان من الصلات أعقدها، ومن العلاقات أحكمها ضبطًا للجميع، ووصولًا بالجميع إلى بر الأمان، مستدلًا بالشاهد على الغائب، كأن الكون في ذاته شاهد عليه سبحانه عند من يُحسن استنطاق الأشياء ووعي لغتها.

مقالات ذات صلة:

التساؤلات وطريق الإيمان الحقيقي

عودة الروح.. كيف نصنعها؟

ماذا تقول لربك غدًا؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض