مقالات

فابريكا

“إلى كل من اكتفى بالتقليد دون الخروج إلى الطبيعة للتجريب والاكتشاف: الفرق كبير بين العالِم والموظف!”.

في خريف عام ١٥٣٦، سرق “أندريا فيساليوس” جثة من مشرحة خارج “لوفان”، وأخذها إلى بيته للدراسة.

حتى هذا التاريخ كان علم دراسة جسم الإنسان وتشريحه، موقوفًا على “جالينوس” الطبيب الإغريقي، المولود عام ١٣٠ م في بلد “برغاموم” بآسيا الوسطى في الجزء المسمى الآن تركيا.

جالينوس درس الطب في عديد من المراكز التعليمية، من بينها “كورنثة” و”الإسكندرية”، كما شغل منصب كبير الأطباء المعالجين للمقاتلين والأسرى في حقبة الإمبراطورية الرومانية، تكمن شهرة “جالينوس” أنه الأعظم فيما يخص علم التشريح. أجرى “جالينوس” أغلب أعماله التشريحية على الكلاب والخنازير والقردة، ذلك أن تشريح الجسم الإنساني كان مرفوضًا في تلك الأيام. ورغم اعتماده على تشريح الحيوانات، ظلت أعمال جالينوس بمنزلة الكلمة الأخيرة والفاصلة، حتى ظهور “فيساليوس” في القرن السادس عشر.

التجربة

في مقدمة كتابه “تاريخ العلم” يقول المؤلف “جون غريبين” واصفًا روح عصر النهضة: “الثورة الحقيقية في تغيير الذهنية التي جعلت الباحثين في عصر النهضة ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم أكفاء، أندادًا للقدماء وأهلًا للتحرك إلى الأمام، متجاوزين تعاليم أمثال “بطليموس” و”جالينوس”، هم بشر مثلهم”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولد “أندريا فيساليوس” في “بروكسل” عام ١٥١٤. التحق بباريس لدراسة الطب عام ١٥٣٣. من عمق شغفه بالتشريح، سرق الجثث لتشريحها ودراستها.

“فيساليوس”

لأن التجربة وليس النقل كانت وسيلة “فيساليوس” في البحث عن الحقيقة، اقتنع أن خبرة جالينوس عن تشريح البشر معدومة، وشجعه هذا على تأليف كتابه عن التشريح البشري. وانتقل بعلم الجراحة من مهنة من الدرجة الثانية يمارسها “ممارس” إلى علم كبير له أصول ومنهج. وتأصيلًا للتوثيق وإمعانًا في التجربة، كان يؤدي عمليات التشريح التوضيحية بنفسه مع الشرح لتلاميذه. استعان أيضًا بعديد من الفنانين لإعداد رسوم توضيحية كبيرة استخدمها في دروسه.

“فابريكا”

ألف كتاب “فابريكا”، الذي علاوة على دقة وصفه للجسم البشري أكد الحاجة إلى أن يؤدي الأستاذ المعلم بنفسه العمل الذي يراه بغيضًا إلى نفسه. وأكد في كتابه أهمية تصديق التجربة التي يشهدها المرء بنفسه، وليس نقلًا لكلمات تلقاها وراثة عن أجيال مضت، إذ إن السلف ليسوا معصومين عن الخطأ.

أدت جهوده إلى اكتشافات من أعظم اكتشافات القرن السابع عشر، مثل اكتشاف وليام هارفي للدورة الدموية. ومن تلاميذ فيساليوس كذلك “غابرييل فالوبيو” مكتشف قناة فالوب. تلقى ثمرة جهوده الجراح “فابريكيوس” مكتشف صمامات الأوردة.

في رحاب العلم لا عصمة لأحد، الكل يتلقف أفكار الآخر ويفحصها ويخضعها للتجربة، وتستمر فقط الفكرة التي صدقتها التجربة والملاحظة. أما ما تكذبه التجربة والملاحظة والبرهان، يندثر إلا أنه يبقى محاولة عقلية أسهمت في الوصول إلى الصواب.

مرض “فيساليوس” ومات فوق جزيرة زانت اليونانية عام ١٥٦٤، إذ ارتطمت سفينة كان يستقلها بصخور. لكن جهوده التجريبية وضعت علم التشريح البشري موضع احترام وتقدير كاملين.

ترى ماذا لو قدس “فيساليوس” “جالينوس”؟

مصادر المقال:

كتاب “تاريخ العلم” الجزء الأول. جون غريبين.

موسوعة الويكيبديا.

مقالات ذات صلة:

الحيل البسطاويسية في التعاملات الطبية

ويليم أوسلر Sir William Osler أبو الطب الحديث.. من هو؟

عنصرية علمية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ .محمد بهجت شهاب الدين

باحث في العلوم النفسية والاجتماعية معلم بالتعليم الثانوي