الأعرج
حرارة الجو لا تطاق، رائحة العرق تعبق المكان، وهج الشمس يكاد يحرق الرؤوس، فها هو شهر أغسطس يعلن عن نفسه محاربًا بلا شفقة ولا رحمة، وقد تسلط وتجبر كيفما يشاء، حتى بدا إلها يحكم على الناس بدخول جهنم وهم لا يزالون على قيد الحياة، كل شيء يلفح الوجوه ويشوي الأجساد، لا تكاد تقف على الأسفلت من شدة الحر، بل لكأنك ترى الرصيف وقد ذاب سائلًا من السعير ولظى الحرارة والهجير.
أعلن خبراء الأرصاد أن درجة الحرارة 46، لكنهم فيما يبدو لم يستطيعوا قول الحقيقة حتى لا يصدموا الشعب، فيسود من ثَمّ الذعر والارتباك، فدرجة الحرارة ربما تقترب من الستين، مسجلة أعلى مستوى لها منذ عشرات السنين، يا إلهي لقد تحول المارة إلى وجوه مكفهرة ترهقها قترة، قد أصابهم الإعياء وبلغ منهم التعب مبلغه، لا يطيق أحد منهم صاحبه، قد تناءت أجسادهم وابتعدت أرواحهم، وتململت نفسيتهم وكلت ذواتهم، فعلت حرارة الجو إذن فعلتها، وغدا كل شيء لا يطاق؛ الناس، الجمادات، الحيوانات… كل شيء، نعم كل شيء أصبح قطعة من الحميم وموضعًا من الجحيم.
حاولت أن أختبئ في ظل جريدة الأخبار التي اشتريتها لهذا الغرض من أحد الباعة، الذي تحولت سمرته بفعل هذا الجو إلى شواظ بركاني، كأنما خرج لتوِّه من نار جهنم، كان الله في عونه! ولما لم تفلح الجريدة في وقاية رأسي من هذا الحرور، نظرت هنا وهنالك فلمحت عربة تبيع الفول والطعمية، أسرعت نحوها، أختبئ في ظلها، علَّها تخفِّف ولو قليلًا، مستترًا بها من الوهج المباشر لأشعة الشمس الحارقة، خصوصًا أن الساعة تقترب من الثانية عشرة ظهرًا، وقد اختفى أي ظل يمكن أن يأوي إليه أحد، سوى هذي الكائنات القائمة على جانبي الطريق.
لُمْتُ نفسي كثيرًا، لقد كان من الأفضل ألا أخرج في هذا اليوم الموعود، لكن ماذا عساي أنا فاعل؟! فقد أجبرتني الظروف على ذلك، ولا بد من الذهاب إلى مبنى وزارة التربية والتعليم بالقاهرة لاستكمال إجراءات تحويل الأولاد من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية، إذ لم أعد قادرًا على تحمل عبء مصاريف زائدة، خصوصًا أن المدارس الخاصة أصبحت كالحكومية، فلا تعليم، ولا تربية، ولا أخلاق، كل شيء أصبح “سداح مداح” كم يقولون.
إضافة إلى أنني لاحظت تراجعًا كبيرًا في مستوى الأولاد التعليمي بصورة فجة، ومما زاد الطين بِلَّةً هذا التردي الأخلاقي، فقد بدوا أكثر عدوانية، وأقل انضباطًا، بل لقد تسربت إلى معجمهم اليومي كثير من الألفاظ الذميمة، ناهيك بقاموس من بذاءات خارجة لم أعهدها عليهم من قبل، مما اضطرني أخيرًا إلى الذهاب إلى المدرسة.
ثمة دهشت مما رأيت وهالني ما شاهدت، لقد تغير كل شيء، دخلت إلى فصل ابنيَّ فراعني المنظر، كثافة عددية فاقت المدارس الحكومية، فالفصل لا تتجاوز مساحته خمسة عشر مترًا وقد تكدس فيه سبعون طالبًا، منظر لا يرجى منه رائحة عملية تعليمية أو مستوى تربوي، ناهيك بعدم وجود أية إجراءات احترازية تخص السلامة والصحة للوقاية من فيروس كورونا وغيره من الأمراض المعدية الأخرى.
رأيت كل ذلك فلم أملك إلا أن أنتشل طفليَّ من براثنهم، ومن هذا المستنقع الوبئ على كل الأصعدة، ثم هرعت فارًّا، وقد آليت على نفسي ألا يدخلاها مرة أخرى مهما حدث، مع أننا كنا لا زلنا في منتصف الفصل الدراسي، لكنني وقد دفعت المصاريف وانتهى الأمر، اتفقت مع مدير المدرسة أن يرسل الواجبات المدرسية عبر تطبيق الواتس آب، ففرح المدير بطبيعة الحال، خصوصًا أنني سأخفف الضغط عليه، وعلى العموم فالدروس الخصوصية ستقوم بالمهمة على قدم وساق، ما دامت المدارس لا تقوم بواجبها المنوط بها كما ينبغي.
مرت السنة الماضية بحلوها ومرها، لكنني قد قررت وحزمت أمري في نقل الأولاد من المدرسة، وإن وجدت معارضة من زوجتي، إذ كانت ترى في التحاقهم بالمدارس الخاصة نوعًا من التباهي والتفاخر أمام زميلاتها في العمل، وحتى لا تظهر بصورة أقل منهن في هذي الناحية، فتتعرض للغمز واللمز، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
دقائق مرت عليّ كالجبال، وأنا لا أرى نسمة هواء، أكاد أختنق، والناس قد تحلقت في انتظار الأتوبيس الذي يذهب إلى ميدان الجيزة، لله الأمر من قبل ومن بعد، التاكسي “المكيف” يقف بعد أن يشير إليه بعض المقتدرين، فكرت أن أستقل واحدًا، بيد أنني تذكرت أنه يمكن أن يقضي على جزء كبير مما معي، أبعدت الفكرة عن رأسي، إذًا لا بد من الانتظار في هذا الزحام الشديد حتى يأتي أتوبيس الغلابة، أحسست أن الموت يقترب مني أكثر فأكثر، فلم أعتد على هذا الجو مطلقًا، لكن ما باليد حيلة ولا بد أن أنتهي من إجراءات التحويل من مجمع المصالح في أسرع وقت.
كظمت غيظي، وأنا أرى الأفواج تتقاطر على كل حافلة تأتي، أكثر من خمسة أتوبيسات قد أخذت حمولتها وانطلقت، ولم يتسن لي من شدة الزحام أن أستقل أحدها، حتى أنهكت وكدت أسقط على الأرض! وأنا أتمتم حسبي الله ونعم الوكيل في وزارة التربية والتعليم، ما المشكلة أن ينتهي كل شيء داخل كل مديرية، لكنه الروتين والبيروقراطية! فلله الأمر من قبل ومن بعد!
وبينا أنا كذلك اقتربت مني سيارة ملاكي، وكنت قد انتحيت مكانًا قصيًا بعيدًا عن محطة الأتوبيس في محاولة مني لالتقاط الأنفاس، ريثما أفكر فيما سأفعله في هذا الوقت العصيب، أما السيارة فقد توقفت عندي تمامًا، وها هو السائق يُلوِّحُ لي بيديه، أن تعال، وهيا اركب معي، شككت في الأمر، نظرت عن يمين وشمال، فلربما كان المقصود غيري، لكنني لم أجد سواي، حدقت أكثر ونظرت، يا الله هل أنا في حلم أم في حقيقة؟!
لاح لي وجه السائق من كثب، يبدو أنني أعرف هذا الشخص جيدًا، إنه يذكرني بعم محمود الأعرج الذي كان يقف دائمًا إبان دخول الأولاد وخروجهم من المدرسة، انتبهت وقلت في نفسي لا يمكن أن يكون هو، عم محمود كان أعرج ويسير على عكازين، يقف متسولًا مادًّا يديه لأولياء الأمور، مهتبلًا فرصة إعطاء الأولاد مصروف الصباح، كان دائمًا ما يقف مرتديًا ثوبًا واحدًا ممزقًا، أكل عليه الدهر وشرب، يتنقل بين أولياء الأمور والسيارات الخاصة، يلهث وراءهم طالبًا متضرعًا متذللًا، بيد أنني ومنذ سنة كاملة لم أره في مكانه المعتاد، أو في أي مكان آخر، لقد تغيب تمامًا، فلم أعد أراه مطلقًا.
لما أفتقدته، بل افتقدناه جميعًا، حينها خطر لي أن أسأل عن كينونته وماهيته، فقالوا إن أحدًا لا يعرف عنه أي شيء، وسألت عن أخباره، فمن يكون؟! وما هو أصله وحسبه ونسبه وقريته ومسكنه؟! وأين أهله وأقاربه؟! وكيف أتى إلى المدينة؟! سمعت أقوالًا كثيرة، بعضها يصدق والبعض الآخر يبدو أنه من عمل المخيلة وسرد الحكايا والتعلق بالأساطير الغامضة، فمن قائل: إنه مجهول الهوية ولا يُعرف عنه أي شيء، ومن قائل: إنه من أولياء الله الصالحين سره باتع، ولربما هذا ما جعل الناس لا يردونه في سؤاله معطين إياه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
على كل فقد مرت الأيام والشهور، والناس يتحدثون في روايات كثيرة عن سبب اختفائه ومبرر لغيابه، تضاربت في ذلك الآراء وكثر الكلام، وإن كانت الأغلبية قد زعمت أنه قد توفي ولم يعد له أثر، أي أثر!
إذن فلقد مات عم محمود الأعرج كما كانوا يطلقون عليه، سرحت كثيرًا فيه، وأنا أترحم عليه، بينما كان السائق لا يزال يلوح لي، وأنا غائب في تفكيري، شاردًا عن كل شيء، متذكرًا آخر مرة أنقدته فيها خمسة جنيهات، بيد أنني انتبهت فجأة على صوت هذا السائق وهو يقول لي: “اتفضل اركب، اتفضل يا أستاذ أشرف، اركب، يلا اركب، الجو حار”، بينما يبتسم لي، مومئًا برأسه!
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا