جهيمان العتيبي
في يوم من الأيام أواخر السبعينيات، والناس بتحج في بيت الله في مكة وبتطوف، وما بين “لبيك اللهم لبيك” والجو القدسي الجميل ده، الناس في نص الطواف بتلاحظ إن أبواب الحرم المكي بتتقفل حواليهم، وفيه حركة مش لطيفة يمين وشمال، وبعدين المايكروفون بتاع الكعبة بيشتغل، وزي ما يكون فيه خرفشة كده كأن فيه اتنين بيحاولوا يخطفوا المايك من إيد بعض، الناس مستغربة من اللي بيحصل، عشان فجأة يطلع واحد على مكبر الصوت، وقصاد الحجاج والمصلين وبعلو صوته يشاور على واحد واقف جمبه، ويقول “كبروا بسم الله، لقد ظهر المهدي المنتظر وهو اليوم بين أيديكم”، وبعدها صوت رشاشات آلية، في كل حتة!
عايزين تعرفوا مين هو المنتظر ده وحصل إيه؟ هقولك..
الحركات الإسلامية الثورية
خلينا نقول إن السعودية دي دولة حديثة، يعني اسمها حديث، مكنش فيه حاجة اسمها السعودية، إنما كانت قبائل اسمها الحجاز وشريف لمكة، لحد ما الملك “عبد العزيز بن سعود” وبمساعدة بريطانيا استطاع توحيد القبايل بالمبايعة، وضم الأراضي الحجازية لمملكة واحدة حلم بيها جده الكبير محمد بن سعود، اللي كان اتهزم على إيد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا حاكم مصر وقتها، وبقت واقع ودولة معترف بها اسمها السعودية، نسبة لآل سعود.
السعودية عملت على ترسيخ حكم السلالة والسيطرة على مقاليد الحكم، إما بإغداق الفلوس على الرعايا، وإما إجهاض أي حركة استقلالية معارضة للنظام الملكي، خصوصًا في الجنوب وفي اليمن.
مع بداية نشأة الحركات الإسلامية الثورية في العالم زي التكفير والهجرة في مصر، وجبهة التحرير في فلسطين، والثورة الإسلامية اللي هتيجي على إثر جماعة الخميني في إيران، رجع الأمل للجماعات والتنظيمات الإسلامية جوة وحوالين المملكة المسيطرة على كل حاجة في إنها تحلم تمشي على نفس النهج كده، وكلهم بيحلموا بنفس الحاجة؛ إنهم يقلبوا النظام ويبقوا ملوك وخلفاء زي آل سعود، على نفس نهج الثورة الإسلامية في إيران وقتها.
من هو جهيمان العتيبي؟
الموضوع بدأ بواحد من قوات الحرس الوطني السعودي اسمه “جهيمان العتيبي” سنه ١٩٦٦م ومعاه “سليمان الشتيوي” و”ناصر الحربي” و”سعد التميمي” بتأسيس جماعة اسمها “السلفية” وزعيمها بقى جهيمان ده.
عشان نبقى عارفين بس، جهيمان العتيبي مولود في “ساجر”، ودي مستوطنة بدوية من ضمن مستوطنات بناها الملك عبد العزيز بن سعود، وسكّن فيها البدويين عشان يبقوا الجناح العسكري في تحالف آل سعود مع الوهابية، ويعاونوه على السيطرة على المملكة بقوة، وكانوا متحدين مع بعض وبيسموا نفسهم “إخوان من أطاع الله” وعلى رأسهم زعيم اسمه سلطان بن بجاد، وده حارب مع عبد العزيز لحد ما تم السيطرة على المملكة كلها.
ساعتها الملك عبد العزيز عمل تحديثات على المنهج اللي اتبعه، واكتفى بالمملكة وفضّل إنه ميكملش جهاد عشان بريطانيا كانت مسيطرة على الباقي، بعكس سلطان بن بجاد اللي كان عايز يستمر في الجهاد وتصحيح الانحراف في الدين، ويكمل فتوحات للكويت والعراق وكده ويعمل دولة خلافة إسلامية، فاختلفوا ووقعوا في بعض، وحارب عبد العزيز ضد سلطان في معركة اسمها “السُبلة” فيها انهزم سلطان واتقبض عليه واتعدم، وانتهى إخوان من أطاع الله.
فجهيمان بقى نشأ في بيئة بتكره النظام الحاكم، وبيحقد عليهم وشايفهم كفروا أو انحرفوا عن المسار، خصوصًا إن أبو جهيمان كان صاحب سلطان بن بجاد ونصحه ميناصرش عبد العزيز أبدًا.
اقرأ أيضاً: ماو تسي تونج
كيف نشأت الجماعة السلفية المحتسبة؟
درس جهيمان لحد رابعة ابتدائي، وبعدين سافر عشان يدرس في الجامعة الإسلامية، وهناك قابل الشيخ محمد القحطاني وده تلميذ ابن باز اللي هو من أهم علماء الدين السنة في العصر الحديث، وقعد وتعلم منه وكمان اتجوز بنته، وبعد كده اشتغل جهيمان موظف في الحرس الوطني السعودي وقعد في الشغلانة دي ١٨ سنة، لحد ما جتله فكرة تأسيس الجماعة السلفية زي ما قلنا فوق.
المهم بعد التأسيس حاولت الجماعة إنها تضم أب روحي ليها، يكون واجهة عشان يكسبوا ثقة الناس والدعوة ليها، فجهيمان ملقاش أفضل من “ابن باز” نفسه، اللي هو علامة عصرنا ده في الدين وآخر ثلاثة “ابن باز والألباني وابن عثيمين”، فبوساطة من القحطاني وافق ابن باز وغير اسمها فبقت “السلفية المحتسبة”، ودعوا الشيخ الجزائري “واحد من الكبار بردو” فوافق على الانضمام.
أهداف الجماعة كانت واضحة جدًا زي دعوة محمد بن عبد الوهاب كده، وهي الرجوع إلى أصل الدين والعمل بالتفصيل والأخذ بالنقل وأعماله، وترك المعاصي والفتن والدعوة والجهاد في سبيل الله إلى آخر الفكر السلفي اللي كلنا عارفينه.
بدأوا نشاطهم الفعلي بتكسير واجهات المحلات في المملكة، والهجوم على استديوهات التصوير وتحريم كل البدع وكده، لحد ما جهيمان العتيبي قرر إنه يطور الموضوع شوية.
أعلن انشقاقه عن العائلة الحاكمة “آل سعود” وتكفيرهم وتكفير العاملين معهم، لأنهم فسدة وبيعاونوا الأعداء والصليبيين، وبدأت الدعوة تنتشر في أنحاء المملكة وبقى ليه أتباع كتير.
محمد بن عبد الله القحطاني
ابن باز لما شاف إنهم بقوا مشاغبين ومتطرفين، هدد إنه هيفتي ضدهم لو مبطلوش اللي بيعملوه ده، فلما جهيمان شاف الخنوع وإنه مش هيوصل مع سلفيين ابن باز لحاجة، انشق العتيبي عنهم، وقرر إنه يوصل للي هو عايزه بطريقة تانية.
جهيمان جتله فكرة عبقرية، أو تقدروا تقولوا إيمان مطلق لأنه كان مآمن بالفكرة دي، قدر يقنع محمد بن عبد الله القحطاني بإنه هو المهدي المنتظر نفسه اللي هيظهر آخر الزمان، لأن اسمه على اسم النبي، وظهوره كان قبل القرن الهجري الجديد “١٣٩٩ه”، يعني منطقيًا كل حاجة ماشية أهه، طب ما يلعب على الحتة دي ويبدأ ثورة مهدوية ويحكم من بعدها السعودية!
حط جهيمان الخطة صح، جمع أسلحة نارية من البادية وجمع مريديه، وحدد ساعة الصفر “١ محرم ١٤٠٠ه” بداية القرن الجديد والتاريخ المميز، اللي أكيد هيبقى علامة فارقة.
طيب هو تصرف على أنهي أساس؟! على أساس حلم شافه إن محمد هو المهدي، وإن الميعاد هو القرن الجديد، وبدأ يخطب في مريديه وأتباعه عن الحلم ده، وإن رسول الله جاله وأخبره إن القحطاني هو المهدي، وإن ظهوره هو بداية القرن الهجري الجديد ولازم نروح الحرم معاه، فالناس صدقته واتبعته، ومنهم كتير من الجماعة السلفية اللي هو أنشأها أصلًا وانشق عنها.
اقرأ أيضاً: أحسن نوع قصة ممكن يأسر عقلك
الأول من محرم 1400 هجري
قبل ساعة الصفر بكام يوم، الجماعة السلفية أخدت إذن من الحكومة السعودية والجيش بأنهم يدوا محاضرات دينية في الثكنات العسكرية، عن التمسك بالوحدة والوطن وكده، وده في صالح المملكة وفي ولاء الجيش للملك، فطبعًا الحكومة وافقت بصدر رحب، يعني دول جايين في وقتهم!
ده كان جزء من خطة جهيمان أساسًا، فجهيمان بعت رجال دعوة من الجماعة واتفق معاهم على خطة هينفذوها بالتوافق مع خطته.
يوم ١ محرم سنة ١٤٠٠ هجريًا و١٩٧٩ ميلاديًا، جمع جهيمان ٦٠٠ مقاتل من أجناس مختلفة، وساعة صلاة الفجر في الحرم المكي جاب شوية توابيت ملاها بالسلاح وخلى الرجالة تشيلهم وتدخل بيهم بحجة صلاة الجنازة على المتوفيين دول.
ودخل الحرم مع الرجالة واستأذن المصلين إنهم يصلوا معاهم الصلاة دي بعد إذن الناس، وطبعًا دا ثواب عظيم فالناس وافقت، الناس دول كانوا عشرات الألوف يعني مش ١٥ ولا ٢٠، كانوا كتير فعلًا!
جهيمان العتيبي يقتحم المسجد الحرام
بعد الصلاة قام جهيمان ومعاه محمد القحطاني ناحية المنبر، وفي هدوء وتماسك ومسك المايك، وكبر تكبيرتين، وأعلن إن المهدي المنتظر ظهر خلاص!
وإنه محمد القحطاني ده اللي واقف معاه، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن خلاص القيامة قربت وأذن الله للمنتظر بالظهور، وعلى المصلين إنهم ييجوا يبايعوه دلوقتي لو كانوا مسلمين!
الناس اللي كانت بالآلاف لما حست بالخطر وغباء الكلام حاولوا يمشوا، لكن رجال جهيمان كانوا قفلوا مداخل الحرم وأعلنوا إنهم احتلوا الحرم رسميًا، خطة جهيمان كانت إنه هيحتل الحرم بالنزعة الدينية، وشوية أسلحة من اللي كانوا في التوابيت، في نفس الوقت الدعاة بقى في الثكنات العسكرية يعلنوا للجيش اللي بيدرسوا لهم في نفس وقت الاحتلال إن المهدي المنتظر ظهر في الحرم دلوقتي بحيث يحدث انشقاق في الجيش ما بين مؤيد ومعارض، ويكسب جهيمان وقت ومؤيدين من جوة الجيش.
الخطة كانت على مشارف النجاح فعلًا! وتوقع جهيمان إن المصلين “لأنهم مسلمين وبيؤمنوا بظهور المهدي” إنهم هينضموا ويبايعوا وهيخرجوا كمان معاه، لكنه شافهم بيحاولوا يهربوا للأسف، مما اضطر جهيمان إنه يقفل الأبواب واحتلال الحرم وأخذ البيعة بالقوة وبتهديد السلاح!
تعرف على: قصة الشيخ طه الفشني
الشيخ السبيل إمام الحرم
كان من ضمن المقاتلين دول قناصة، بيقولوا إنهم كانوا بيصطادوا الحرس الملكي والقوات بمهارة شديدة من فوق المنارة في الكعبة.
إمام الحرم وقتها “الشيخ السبيل” بعد اللي شافه وفي وسط الدربكة كده، عرف إنه يهرب قبل ما يقفلوا المدخل، وراح مبلغ السلطات باللي بيحصل جوة.
جهيمان قبلها على طول كان باعت ٧ رسايل لدول العالم الإسلامي بالمبايعة، زي ما الرسول عمل كده وقت انتشار الدعوة، لكم أن تتخيلوا طبعًا رد فعل السادات أو صدام حسين أو القذافي لو كانوا قروها!
الوحيد اللي احتفظ بالرسالة دي وأخدها على محمل الجد كان أمير الكويت لإطلاع السلطات السعودية عليها للدراسة، الرسايل دي كانت عبارة عن دعوة للمبايعة للمهدي المنتظر أو التكفير والتهديد بالدم، وده أسلوب السلفية الجهادية المسلحة العادي.
طيب بعد ما السلطات عرفت بقى عملت إيه؟
موت محمد القحطاني المهدي المزعوم
الأمن الداخلي للحرم حاول يقتحم لمدة ٥ أيام متواصلة، وضربوا نار على المسلحين جوة بس كانوا خايفين إنهم يقتلوا مصلين، فمكانوش عارفين يسيطروا على الوضع نهائي، خصوصًا إن الرهائن كانوا كتير فعلًا، وكمان ده شهر حرام وجوة الكعبة فكانوا مترددين، فطلبوا المدد من الجيش السعودي اللي بدوره طلب العون من القوات الأردنية والفرنسية والباكستانية وخلافه.
بعد ما رهائن كتيرة وناس من الجماعة دي كانوا بدأوا يصدقوا إن محمد القحطاني هو المهدي، وعدت أيام من الاحتجاز مشافوش أي محاولة لتحريرهم، وكانوا على وشك التصديق والمبايعة بجد مش بالتهديد، حصلت حاجة غريبة…
في اليوم التالت للحصار ووسط ضرب النار، محمد القحطاني اللي المفروض هو المهدي، اتقتل! أخد رصاصة ومات عادي بسبب تخيلات جهيمان دي، مات قدام الناس كلها بعد ما كان بدأ يقنع الناس إنه المهدي.
الناس وقتها عرفت إنه مات وخصوصًا اللي كانوا داخلين مع جهيمان من البداية، وبدأوا يسألوا نفسهم طب إزاي؟ ده المفروض مش هيموت دلوقتي، إزاي المهدي يموت قبل الدجال والحرب والمسيح وجيش الخسف؟!
جهيمان بقى عشان ينقذ الموقف، تصرف بذكاء، وراح مخبي جثة المهدي المزعوم عند الصفا والمروة من غير ما حد ياخد باله، ورجع صرخ في الناس إنه عايش بس متواري عننا لحكمة يعلمها الله، وهيعاود الظهور تاني لما جيش الخسف ييجي ومعاه نصر الله إن شاء الله، وأمر بفتح الباب للنساء والأطفال إنهم يمشوا عشان تبادل إطلاق النار ميصبهومش.
طبعًا مصداقيته بقت في الأرض وبقى في نظر الناس مجنون وكاذب.
اقرأ أيضاً: العمرة وطواف المحتاجين
تحرير المسجد الحرام والقبض على جهيمان
الجيش السعودي ومعاه فرق من فرنسا والأردن وباكستان، ويقال الكوماندوز المصري –رغم العلاقات المقطوعة بسبب حرب أكتوبر والمعلومة مش أكيدة– قرروا الاقتحام والالتحام، وده بعد أسبوع من الحصار وقطع المياه والكهربا، ويقال إنه بعد أربع أيام بس، الخطة كانت إن القوات الأجنبية تأمن برة والقوات السعودية تقتحم وتهجم وتلتحم جوة.
وفعلًا حصل الهجوم، وكان هجوم وحشي دموي بالمدرعات والأسلحة الثقيلة وقنابل الغاز وتبادل إطلاق النار، في شهر حرام جوة باحة وصحن الكعبة والمتحاربين فرقتين مسلمتين!
جهيمان ورجالته احتموا بقبو أرضي تحت أرض الحرم بعد ما القوات السعودية ضربوا مدافعهم على الكعبة وقتلوا أول ٢٨ واحد جوة ساحة الكعبة نفسها، الدم غرق الحرم والنار حرقت قماش الكعبة، وعجلات الدبابات داست على بلاط مكة!
بعد هجوم كاسح أخد ساعات من تبادل إطلاق النار والضرب، احتمى الناجين من المقاتلين والجهاديين ببئر زمزم، وحاولت القوات السعودية تقنصهم، وفي الآخر قبضوا على الأحياء منهم واللي كان منهم جهيمان، اللي كان قاعد فوق كومة أسلحة بكل هدوء وحاول المقاومة لكنه فشل، وبعد ما خلصوا كمان قامت القوات السعودية بمداهمة منازل المتعاطفين معاهم اللي مشاركوش حتى وقبضوا عليهم، حتى اللي استسلم وسلم سلاحه اتقبض عليه!
كان عدد المتبقين والمقبوض عليهم ٦١ اللي اتعدموا بعد كده، والباقي هربوا واتقتلوا في المعركة أو استسلموا للقوات الأجنبية.
اقرأ أيضاً: واقع الفلسفة الإسلامية ومستقبلها
إعدام جهيمان العتيبي
يقال إن جهيمان فضل ثابت على موقفه بهدوء، ووقت القبض عليه كان بيناقش وجهة نظره مع السلطات والحماية المدنية والقوات بكل هدوء وسلاسة، وكان ثابت حتى في إعدامه، وبقى رمز للجماعة السلفية لحد النهاردة لأنه أشجع واحد عمل حاجة وثار وواجه الموت.
بعد محاكمات قصيرة حُكِم بإعدامهم بالذبح بعد فشل ثورتهم بيومين، واتقسموا على ٤ مجموعات، واتدبحوا في أرجاء المملكة قدام الناس زي العادة، وخلصت الحدوتة.
طبعا لما لوث الجيش السعودي الحرم بالدم بسبب الحركة دي، وبعد تعذيب المعتقلين في المحاكمات والالتجاء إلى القوات الأجنبية، وتدنيس الكعبة على حد وصف السلفية الجهادية، فكان محور ارتكاز الحركة دي واحد اسمه “أبو محمد المقدسي”، واللي كان السبب في دخول أسامة بن لادن للسلفية والظواهري كمان بعد كده وتأسيس تنظيم القاعدة، يعني البداية الحقيقية للإرهاب كانت من جهيمان، شايف اللفة كانت فين؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا