هل أنت بحال جيد؟ .. الجزء الخامس
في هذا الجزء من البحث حول الحال الجيد للإنسان، نتكلم عن مسألة اعتقادية يؤمن بها أغلب الناس عقلًا ولا يشعرون بها قلبًا على الأغلب.
لو نظرنا لهذا الكون الفسيح وما فيه من إبداع ونظام ودقة، لعرفنا أن وراء كل هذا الإبداع خالق عظيم عليم وحكيم، خلق بعلم وحكمة فائقة الجمال والجلال، وعلى رأس هذا الوجود جعلنا أفضل خلقه تكريمًا منه سبحانه وتعالى، ونلاحظ الدقة في تسيير الكون وفق النظام الأصلح، فكلٌ وُفِّق لما خلق له.
وفَّر سبحانه وتعالى سبل الهداية والارتقاء والسعادة الحقيقية لمن يرغب، من خلال رسم طرق هذا الارتقاء للوصول إلى السعادة وفق قواعد تتفق مع فطرة الإنسان وتوافق عقله.
هل خلقنا الله لنشقى؟
بالرغم من كل هذا الفضل نجد البعض يؤكد إيمانه بوجود هذا الخالق العظيم وحكمته عقلًا، إلا أنه قد لا يشعر بذلك قلبًا، فنجده يظن أن الله خلقه وتركه أو أنه لا يحب أن يكون في أحسن حال، على الرغم من أن الله سبحانه قد أوجد كل هذا الكون على أحسن حال، لذلك نجد أن من يعتقد قلبًا أنه لا سند له ولا محبوب له حتمًا سيشعر بسوء الحال.
إن هذا الاعتقاد بحكمة خالق الكون وعدله سند الإنسان في التغلب على سوء الحال، يجب أن يكون سببًا للتخلص من الخوف غير الحقيقي والمبالغ فيه من الدنيا والبشر، كذلك سببًا في التخلص من القلق غير المبرر من القادم غير المعروف، فإن الاعتقاد أن رب الوجود دائمًا ما يسبب لنا أسباب الهداية والصلاح سيكون مقدمة للصلاح، شريطة العمل وفق هذا الاعتقاد.
يجب تحويل الخوف غير المبرر إلى خوف من سوء الحال مع خالقنا العادل الرحيم، فهو سبحانه مسبب الأسباب ومدبر الوجود، فالخوف من عقابه هو خوف صحي يجعل الإنسان على الطريق السليم.
أثر الفكر المادي الغربي على فكر وسلوك الإنسان
لو نظرنا لكل ما سبق لوجدنا أن هذا الاعتقاد هو فكر واقعي يوافق حقائق الوجود، إلا أن هناك كثيرًا من العوامل جعلته صعب الفهم أو التطبيق مما تسبب في سوء حال الإنسان، ونجد من أهم تلك العوامل الفكر المادي بما يمثله من اعتقاد وسلوك خاطئ، جعل منه فكرًا تسبب في سوء حال الإنسان.
نقصد بالمادية هذا الفكر القائم على حب الدنيا بما هي مادية فقط، والسعي الدائم للحصول على مزيد ومزيد من النفع المادي والمقتنيات المادية دون الاكتراث بالأمور المعنوية، بل غالبًا ما يرسخ الفكر المادي بعدم وجود أصل أو ضرورة للأمور المعنوية.
عندما يحتل هذا الفكر عقل الإنسان فإنه بلا شك قد وقع تحت التأثير الدائم للخوف والقلق وعدم الاستقرار، فالمادية من الناحية الفكرية ترى أن الواقع هو التمتع بكل ما يستطيع الإنسان الحصول عليه دون النظر إلى طريقة الحصول عليه وكيفيته.
انتشار ثقافة الاستهلاك
هذا زمان يسعى فيه أغلبنا لامتلاك أحدث أجهزة الاتصالات، وأغلى ماركات الملابس، والسكن في الأماكن الراقية والقدرة على الإنفاق والشراء متى نشاء، وقد يستطيع البعض الوصول لتلك القدرة، وعلى الرغم من وصوله إلا أنه يستمر يلهث وراء مزيد ومزيد من هذا الوهم القائم على امتلاك أكبر قدر من كل ما يستطيع الحصول عليه.
هذا يسلبه الاستقرار والأمان، ويزيد خوفه من القادم الذي لا يعلم عنه شيئًا لكنه يريد أن يمتلك فيه أكثر، ويخاف من الحاضر أن يفقد ما جمع، هذا حال المادية لمن يستطيع تحقيق مكاسب فيها ظاهريًا، إلا أنه في الحقيقة يكون قد دخل مصيدة الجمع والاستهلاك وبينهما عدم الرضا والخوف والقلق وعدم الاستقرار الدائمين، وبالتالي سوء الحال المستمر.
نجد على سبيل المثال من يسعى لامتلاك أحدث هاتف محمول، يكون في غاية الشوق للحصول عليه وقد يعمل فترات طويلة لتوفير ثمنه، وعندما ينجح في ذلك ويشتريه فإن الفرحة تغمره لفترة وجيزة، ثم ما يلبث أن تتحول تلك الفرحة إلى حالة من التعود ثم الفتور ثم يبدأ طلب الإصدار الأحدث.
تشويه المعنى الحقيقي للجمال
أيضًا نجد بناتنا اليوم قد شوه الفكر المادي منظور الجمال لديهن، مُختصِرًا الجمال في جمال البشرة وانسياب الشعر وارتداء أحدث صيحات الموضة، هذا كله جعل بناتنا عرضة لهذا الفخ في الرغبة المستمرة للوصول إلى هذا الجمال بالمنظور المادي الغربي، وما أن يصلن إلى جزء منه يظهر الجديد، فيطلبن مزيدًا من كل جديد، هذا هو فخ المادية الذي استعبد البشر في وقتنا الحاضر.
الشعور بالحزن وعدم الاستقرار
النموذج الآخر هو ذلك الشخص الذي يسعي للوصول إلى الاستطاعة التي يحددها الفكر المادي بالقدرة على الامتلاك لكنه لم يستطع، فهذا لا يقل سوء حاله عمن استطاع، هو أيضًا يظل يسعى ويلهث وراء تلك القدرة الوهمية في الوصول للقدرة المادية، وعندما لا يستطيع تحصيل ذلك يشعر بالأسى والحزن وعدم الاستقرار، مما يسبب له سوء الحال المضاعف في عدم القدرة على الامتلاك، وأيضًا على عدم القدرة من الوصول إلى السعادة المادية.
التخلي عن القيم والمبادئ السليمة
الشخص الباحث عن الثروة يسعى طوال عمره للوصول إليها، وإن كانت الثروة هدفًا في حد ذاته، قد يضحي بالغالي والنفيس من أجلها سواء بالقيم والأخلاق أو بالاستقرار والثبات على مبدأ سليم، فقد يتخلى عن مسؤولياته أبًا وزوجًا، وقد يستخدم أقبح الأخلاقيات حتى يصل إلى مراده، فكثير يقبل الرشوة ويستخدم أساليب الغش في التجارة والمعاملات.
كم من شخص يتمنى على سبيل المثال أن تكون حياته قريبة من حياة الممثل والمغني، الذين يشاهدهم ويشاهد نمط حياتهم ليلًا ونهارًا، من خلال الدور السلبي الذي يمارسه الإعلام اليوم في تسليط الضوء على ممارساتهم، من سفرهم في إجازات الصيف وموديلات الملابس والسيارات التي يمتلكونها.
هذا من وجهة نظرنا ليس غريبًا، خصوصًا لو علمنا أن تسليط الضوء على هكذا ممارسات وسلوكيات هو من أدوات الفكر الغربي، لتغيير نمط حياة الناس ورسم السعادة الوهمية التي يجب أن يعتقدوا أنها هي السعادة الحقيقية، ما انعكس بدوره على أخلاق الناس بالسلب، وجعلهم يمارسون أبشع سلوكيات ممكن أن نتصورها في وقتنا الحاضر، لمجرد الحصول على تلك الحياة الوهمية التي يحددها لنا هذا الفكر المادي القبيح، هذا بلا شك هو من أصعب الأحوال التي يمكن أن يعيش فيها الإنسان.
يتبع..
مقالات ذات صلة: