قضايا وجودية - مقالاتمقالات

أحجية نظرية الصدفة

هب أن زلزالًا أو إعصارًا أو فيضانًا اقتلع منزلًا خشبيًا بسيطًا في غابة ما، لا مراء أن عملية إحالته إلى حطام عبر هذه القوة العمياء لن تستغرق إلا لحظات معدودات، رغم أن صاحبه قد يكون استغرق في بنائه شهورًا.

كيف يمكن أن توجد الحياة من العشوائية؟

هنا يمكن أن نطرح سؤالًا على دعاة الصدفة، المؤمنين بكون الحركة العشوائية لقوى الطبيعة هي التي خلقت عبر مليارات السنين من التفاعلات كل الكائنات الحية التي وجدت على هذه الأرض، هذا السؤال:

كم من الزمن يمكن أن تحتاجه الأعاصير أو الزلازل أو الفيضانات أو غيرها من قوى الطبيعة التي تسببت في تدمير هذا البيت الخشبي لتعيد عبر حركتها العمياء تجميع نفس القطع التي تناثرت منه في نفس مكانها؟

ثم كم من الزمن تحتاجه هذه القوى لتبني لنا من هذه القطع الخشبية بيتًا مشابهًا للبيت الذي حطمته في لحظات؟

إذا ما اعترض معترض باستحالة إمكانية تجميع نفس القطع في نفس المكان، فلنيسر الأمر ولنطرح عليه نفس السؤال بطريقة أكثر سهولة، كم من الزمن تحتاجه قوى الطبيعة تلك حتى تجمع قطعًا خشبية مشابهة في حجمها وشكلها للقطع التي حطمتها في أي بيت من البيوت الخشبية التي كثيرًا ما حطمتها هذه القوى؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم كم من الزمن تحتاجه بعدها لتركيب هذه القطع في صورة بيت خشبي صالح للسكن مرة أخرى؟

الكون يتحدى العشوائية والصدفة

هل ثمة احتمال أن تمنحنا قوة ما من قوى الطبيعة العمياء منفردة أو حتى كل قوى الأرض مجتمعة بيتًا خشبيًا بسيطًا، حتى لو غطينا لها سطح اليابسة عن بكرة أبيها بقطع من الأخشاب من كل شكل وحجم، ثم منحناها مليارات السنين من الزمان لإنجاز هذه المهمة البسيطة التي ينجزها إنسان واحد ربما في شهور؟

الإجابة المنطقية تقول إن هذا الاحتمال هو أمر محال، وهنا يثور سؤال: لماذا؟ الإجابة: لأن ما يمكن أن تراكمه اليوم قوة ما من هذه القوى (الأعاصير مثلًا) من كتل خشبية تقتلعها من هذا البيت أو ذاك، أو حتى التي تهشمها من أشجار الغابات عبر حركتها العشوائية، حتى لو كانت كافية لبناء مليون بيت، ستفتك بها هي نفسها غدًا وتبعثرها في كل مكان.

بل وستحطمها عبر ما تحدثه من تصادم عشوائي بين هذه الكتل الخشبية فتحيلها مع مرور ملايين السنين إلى شظايا، وإن سكنت تلك الأعاصير ولم تفتك بها يومًا ما، فسوف تفتك بها قوة أخرى من القوى المهيمنة على عالم المادة مثل: الفيضانات أو البراكين أو الحرائق أو غيرها من القوى.

نظرية الصدفة في خلق العالم

نظرية الصدفةما يجعل إمكانية تجميع شظايا هذا المنزل مرة أخرى وتركيبها على نفس الصورة التي كانت عليها أمرًا محالًا، ولو استمرت هذه القوى في سعيها لتحقيق هذا الهدف مليارات السنين، ذلك لأن ثمة حقيقة تتعلق بهذه القوى العمياء ونراها بأم أعيننا، ألا وهي أن هذه القوى ذات قدرة مذهلة على هدم كل شيء يقف في سبيلها، لكنها لا تعرف للبناء سبيلًا.

لإدراك علماء نظرية الصدفة لتلك البديهيات فقد كان من الطبيعي ألا يقعون مطلقًا في فخ ما يناقضها، لذا لم نسمع أن أحدًا منهم قد ادعى أن الطبيعة، وخلال تفاعلات قواها المادية عبر عمر الكرة الأرضية الذي يمتد إلى مليارات السنين، قد طورت من المكونات المادية التي تغطي سطح الكرة الأرضية بيوتًا حجرية أو خشبية مثلًا.

أو منحتنا تماثيل أو مجسمات حجرية أو معدنية، عبر ما مرت به أعداد لا تحصى من الكتل الخشبية أو الحجرية أو المعدنية من عوامل تعرية وتآكل ونحت، بسبب تعرضها لرياح وأعاصير وفيضانات ورطوبة ممزوجة بدرجات حرارة معينة

وضغط جوي متقلب، ومن تفاعلات كيميائية، ومن ضربات لا تنتهي من قبل كتل حجرية أو خشبية أو معدنية أكبر منها وأقوى، تحملها لها الأعاصير أو الفيضانات أو الزلازل أو غيرها.

لا شيء بالصدفة

على الرغم من أن علم الاحتمالات لا يستبعد إمكانية أن نجد ولو عددًا قليلًا من بين مليارات الكتل الحجرية أو الخشبية مختلفة الأحجام التي تغطي مساحات هائلة من الكرة الأرضية، وقد أخذ شكل تمثال لإنسان أو لحيوان أو أخذ شكل آلة مثل فأس أو سكين أو سيف، أو حتى رحى حجرية أو غيرها من الآلات البسيطة التي صنعها الإنسان البدائي.

أو وجد في صورة مجسم مما تصنعه الطيور أو الحشرات مثل عش طائر أو بيت عنكبوت أو خلية نحل، أو غيرها من تلك الأشكال البسيطة، عبر التفاعلات التي كابدتها مكونات سطح الكرة الأرضية خلال مليار ات السنين مع قوى الطبيعة الهائجة والعمياء.

على الرغم من إمكانية ذلك ويسره إلا أن أيًا من علماء نظرية الصدفة –والتزامًا بالمنهج التجريبي القائم على الدليل العلمي– لم يقل بمثل هذا الادعاء، نظرًا لأنه لم يتم العثور على أي نموذج من هذه النماذج أو المجسمات دون أن يكون ثمة إنسان أو كائن حي ما هو الذي صنعه، وبالطبع هذه موضوعية علمية تحترم بشدة وترفع لها القبعة.

اقرأ أيضاً: هل نشأ العالم من قبيل الصدفة

اقرأ أيضاً: الصدفة وحدها هي السبب وراء نشأة الكون

اقرأ أيضاً: العقل والعِلّية

نقد نظرية الصدفة

غير أن هذه الموضوعية العلمية –وللأسف العميق– لأصحاب نظرية الصدفة وعدم ادعائهم أن قوى الطبيعة تستطيع أن تمنحنا من هذه التشكيلات المادية البسيطة شيئًا، لا تلبث أن تتلاشى وبشكل يصيب العقل السوي بالدوار.

ذلك حينما يذهبون إلى ادعاء مذهل أن قوى الطبيعة لم تستطع أن تمنحنا –بالفعل– من هذه المجسمات المادية البدائية شيئًا، غير أنها منحتنا عددًا لا يحصى من الكائنات الحية التي تعد شروط إيجادها عبر الحركة العشوائية لقوى الطبيعة أكثر تعقيدًا بملايين المرات من شروط إيجاد مجسمات مادية بدائية.

يكفي لمعرفة مدى ذلك التناقض العقلي المذهل أن نشير إلى يقينهم بأن قوى الطبيعة التي عجزت عن منحنا مجسمًا واحدًا ساذجًا قد منحتنا بداية خلية تتكون من 100 ترليون ذرة (وفقًا لتقديرات علماء بجامعة واشنطن لعدد الذرات التي تتكون منها الخلية الحية).

الإعجاز الرباني داخل الخلية الحية

نظرية الصدفةكل ذرة من هذه الذرات اتحدت في ترابط مذهل لتشكل مع عدد ما من الذرات الأخرى مليارات الجزيئات، كل جزيء من هذه الجزيئات يسهم في إنجاز مهمة محددة له سلفًا في آلة ما من آلات هذا المصنع العملاق والخارق التعقيد الذي يسمى الخلية.

كل ذلك في مساحة تتراوح ما بين 1-100 ميكرو متر (واحد على الألف من المليميتر)، ثم لا يقف الأمر عن كون هذه الجزيئات تتآزر معًا لتمنحنا بناءً آليًا ميتًا، كما هو الحال عندما تتجمع جزئيات الحديد لتمنحنا كتلة يشكل منها صانع آلة ما (كماشة مثلًا) ثم ينتهي دور هذه عند ذلك.

بينما تمنحنا تلك الجزيئات خلية حية تقوم بعدد ضخم ومذهل من العمليات الحيوية التي تحتاج إن أراد البشر محاكاتها لمصنع عملاق يشرف عليه آلاف الخبراء والمهندسون والفنيون الأكفاء.

رغم أن إنجاز بعض مهام الخلية الحية يمكن لمصنع بشري عملاق –نظريًا– محاكاته، إلا أن الأمر المستحيل محاكاته في مهامها –ولو بعد مليار عام– أن ينسخ خبراء ومهندسو هذا المصنع وفنيوه نسخة بكل هذا المصنع بما فيه أنفسهم، ولو أعطيناهم من الزمن ملايين السنين.

معجزة خلق الإنسان

نعم يمكن أن ينجح المهندسون والفنيون في نسخ الآلات والهيكل العام للمصنع، وهو أمر ربما يتطلب جهدًا خارقًا، غير أن المحال في عملية النسخ هذه هو أن ينسخ المهندسون والفنيون أنفسهم لتقوم هذه النسخ الجديدة منهم للإشراف على إنجاز العمليات الحيوية المعقدة في المصنع الجديد.

غير أن الاستحالة لم تتوقف عند ذلك الحد، إنما ثمة ضرورة لهذا المصنع الجديد لأن ينقسم ليخلق منه مصنعًا جديدًا متكاملًا بكل مكوناته، بما فيه الخبراء والمهندسون والفنيون، وهكذا على نحو يتكرر ملايين المرات.

ثم تتجمع كل مجموعة مليونية من هذه المصانع لتشكل مصنعًا أكبر لتشكل معًا بناءً واحدًا يؤدي مهمة محددة في كيان ضخم يسمى الكائن الحي مثل التنفس أو الهضم أو الإخراج.

ثم مطلوب أن تتآزر مئات الأبنية معا –وكل ذلك في وقت واحد– لتمنحنا في النهاية كائنًا حيًا متكاملًا، قد يحوي من تلك المصانع الرئيسة “الخلايا” (كما في الجسم البشري) ما بين 75 إلى 100 ترليون مصنعا أو خلية حية، تتآزر كلها معًا في تناسق بديع لتمنحنا ذلك الكائن الحي الذي نسميه إنسان.

ما نعرفه عن قوى الطبيعة

قد يزيد هذا العدد أو ينقص ليمنحنا كائنًا حيًا آخر أضخم أو أقل ضخامة من الإنسان، بداية من الأميبا وحيدة الخلية انتهاء إلى الحوت الأزرق الذي قد يصل وزنه إلى 200 طن، ما يعني أننا أمام عدد خارق من الخلايا التي تتآزر معًا في تناغم عجيب لتمنحنا هذا الكائن المذهل.

هكذا.. فإن الوضعية السالفة التي يقر العقل باستحالة قدرة قوى الطبيعة وقوانينها على أن تمنحنا بيتًا حشبيًا أو تمثالًا لكائن حي من الحجر أو حتى سيفًا أو سكينًا، مع التأكيد التام والقطع الجازم بكونها منحتنا عددًا لا نهائيًا من الكائنات الحية ذات التعقيد الخارق.

إن الوضعية تلك تجعلنا كمن يريد أن نصدق أحجية تقول لنا أن ثمة طفلًا عمره سنوات ثلاث لم يؤهله نموه العقلي بعد أن يقدم لنا حلًا لمسألة بسيطة في جدول الضرب مثل 3*3، لكنه يستطيع وبكل براعة أن يقدم لنا حلولًا نهائية لكل المعادلات المعقدة في فيزياء الكم والنسبية ونظرية الأوتار الفائقة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.