تورينو (Turin) واحدة من أهم المُدن الأوروبية تاريخًا وحضارة. تقع في شمال غرب إيطاليا، وتحديدًا على الضفة الغربية لنهر بو (Po)، وهي أول عاصمة لإيطاليا الموحدة في الفترة من سنة 1861 إلى سنة 1865. تبلغ مساحتها 130.17 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها نحو 900 ألف نسمة، ومع ضواحيها يبلغ العدد نحو مليون ونصف نسمة.
تشتهر المدينة اليوم بالقهوة ذات المذاق الخاص، وشوكولاتة البندق اللذيذة، وسيارات فيات (Fiat)، ونادي يوفنتوس لكرة القدم (Juventus FC)، ومول أنطونيليانا (Mole Antonelliana)، وكذلك بالعجائب المعمارية والمتاحف والمطاعم والقصور ودور الأوبرا والحدائق والمسارح والمكتبات وغيرها.
بالإضافة إلى ما سبق، تُمثل المدينة لحظة تاريخية فارقة في حياة الفيلسوف الألماني متعدد الاهتمامات فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) (1844 – 1900).
كيف تسبب حصان تورينو في جنون نيتشه؟
في الثالث من يناير سنة 1889، خرج نيتشه من بيت مضيفيه في تورينو –وكان قد انتقل إليها سنة 1888 بهدف العلاج– ربما ليتنزه، وربما قاصدًا مكتب البريد لاستلام رسائله، وعلى بُعد خطوات من البيت إذا بمشهدٍ يوقفه ويُفجعه ويؤثر عليه فيما تبقى من حياته؛ سائق عربة يجلد حصانًا بوحشية!
انخرط نيتشه في نوبة بكاء شديدة، وألقى بنفسه على رقبة الحصان محاولًا حمايته من الضربات، ثم كانت نوبات الانهيار العصبي التي كابدها في سنوات عمره الأخيرة، ثم الصمت الذي أفضى به إلى الموت!
كان نيتشه قبل موته يعزف على البيانو ويغني بهدوء لساعات متتالية، وشوهد يرقص عاريًا في غرفته، كما شوهد يُلقي بالنقود الممزقة في صناديق القمامة!
تتأرجح هذه الحادثة بين الأسطورة والحقيقة، فالرواية الوحيدة المكتوبة عنها هي تلك التي دونها صحفي مجهول عن حوارٍ له مع السيد فينو (Fino) –مُضيف نيتشه في تورينو– سنة 1900.
نيتشه والحصان وتعذيب الحيوانات
إذ أشار السيد فينو إلى أنه ذات يوم، بينما كان يسير في شارع فيا بو (Via Po) أحد شوارع تورينو الرئيسة، شاهد مجموعة من الأشخاص يلتفون حول اثنين من الحراس الذين اعتقلوا البروفيسور. لقد وجد الحُراس نيتشه يحتضن رقبة حصان بقوة ويرفض تركه.
قام السيد فينو بسرعة بتأمين إطلاق سراح نيتشه واصطحابه إلى البيت! ومع ذلك، فإن التشكيك في هذه الرواية لم يمنع المؤرخون والمخرجون وكتّاب السير من إضفاء أهمية بالغة عليها.
في فيلم الدراما الفلسفي المجري حصان تورينو (The Turin Horse) (2011)، ومن قبله فيلم الدراما الرومانسي الأمريكي كائن لا تُحتمل خفته (The Unbearable Lightness of Being) (1984)، تم تصوير هذه الحادثة كلحظة صدمة أصيلة وفارقة في قصة حياة نيتشه، إيذانا ببداية انحداره إلى الجنون الذي استمر إحدى عشرة سنة حتى وفاته سنة 1900.
نيتشه في كتاب تورينو لديفيد بروكس
في كتابه “تورينو: الاقتراب من الحيوانات” (Turin: Approaching Animals) (2022)، يأخذ الشاعر والروائي الأسترالي ديفيد بروكس (David Brooks) حادثة حصان تورينو كنقطة انطلاق عكسية، إذ يكتب في الفصل الافتتاحي قائلًا: “المُهم هو ما قاله نيتشه للحصان. أو ربما فعل القول ذاته: القول، ومن بعده الصمت!”.
على العكس ممن نظروا إلى الحادثة كنوبة حُزن وتعاطف شديدين تجاه حيوانٍ أصم يُكابد وحشية البشر، أدت بـنيتشه إلى الغيبوبة والجنون، يتساءل بروكس: “ألا يمكن قراءة هذه الحادثة على أنها تشير إلى بداية نوع من التعقل العميق؟!”.
أما في القسم الأخير من الكتاب، والذي جاء تحت عنوان “الحصان: لا تسل عما قاله نيتشه، بل عما قاله الحصان لـنيتشه”، فيطرح فيه بروكس صيغة مماثلة لسؤال الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنشتين (Ludwig Wittgenstein) المشهور حول ما إذا كان بإمكاننا أن نفهم الأسد إذا تكلم بلغتنا، فيكتب قائلًا: “لو كان بإمكان الحصان أن يتكلم بلغة البشر، فماذا كان يمكن أن يقول لـنيتشه؟”.
كيف رأى فتجنشتين لغة التواصل بين الحيوانات والبشر؟
كان فتجنشتين قد طرح السؤال في كتابه “مباحث فلسفية” (Philosophical Investigations) (1953)، وذهب إلى أنه حتى لو تمكن الأسد بطريقة ما من التحدث بلغتنا، أو تم تطوير تطبيق للترجمة من لغة الأسد إلى لغة البشر، فسوف يظل الأسد يكافح من أجل التعبير بوضوح عن وجهة نظره للإنسان، أو لكي يُخبرنا بقصة مقنعة!
أوضح فتجنشتين أن هذا الانهيار المحتمل في التواصل إنما يرجع إلى أن الأسود ليس لها أية حصة مشتركة يمكن تصورها في عالمنا. وبعبارة أخرى، ستكون منطوقات الأسد بلا معنى بالنسبة لنا، لأنها لن تستند إلى إحساس مشترك بالسياق.
الطريقة التي يفكر بها الأسد –إن كانت ثمة طريقة لديه للتفكير– مختلفة تمامًا عن طريقة تفكير البشر، أو في الواقع عن طرق تفكير الحيوانات الأخرى، لأنها قادمة من إطار مرجعي أو سياقٍ مختلف تمامًا عن السياق الإنساني!
على أية حال، وسواء أكان أو لم يكن بإمكان الأسد، أو الحصان، أو أي حيوان آخر –لو استطاع أن يتكلم– أن يُخبرنا بشيء عن عالمه، فإن إنسانيتنا تُجبرنا على أن نفكر في الحيوانات ككائنات حية، يمكن أن تشعر، ويمكن أن تتألم، ويمكن أن تتكلم معنا عن عالمٍ مختلف لحياتها ووعيها ومداركها.
اقرأ أيضاً: العقل والأُضحية
اقرأ أيضاً: برمجة الحمار: بوريدان ومُعضلة الاختيار
اقرأ أيضاً: العلاقة بين القط والإنسان أغرب ما يكون
اختلاف فلاسفة الغرب في مفهوم التعامل الإنساني مع الحيوانات
تُجبرنا إنسانيتنا أن نتساءل: لماذا تتسم نظرتنا إلى رفقائنا على الأرض من غير البشر بنوعٍ من الدونية والازدراء في كثيرٍ من الأحيان؟ ولماذا فشلت الفلسفة عبر تاريخها في إيقاظنا من سُبات غرورنا البشري، وتهيئة فهم أخلاقي لغيرنا من الأنواع يتجاوز فقر الخيال وعمى تقاليد الفكر؟!
الحق أن الفلسفة الغربية لم تكن –تاريخيًا– مُهتمة كثيرًا بما يمكن أن نُسميه وعي الحيوان وحقوقه، إذ غالبًا ما وُضع البشر في منزلةٍ ما بين الآلهة من جهة، والحيوانات من جهة أخرى، مع التأكيد على قربنا من الآلهة نظرًا لتميزنا بالعقل.
الرؤية الأرسطية
في اليونان القديمة، ذهب أرسطو (Aristotle) مثلًا إلى أن الحيوانات تفتقر إلى العقل، وإن كانت تتمتع بالإدراك الحسي، ومن ثم فهي في مرتبة طبيعية أقل من مرتبة البشر، ولذا يمكن استخدامها كموارد لتلبية احتياجات الناس.
رؤية فيثاغورس
لكن فيثاغورث (Pythagoras) عارض هذه الرؤية الأرسطية، وحث على احترام الحيوانات معتقدًا أن الأرواح يمكن أن تتبادل أجساد البشر والحيوانات، وقد لا تكون هذه الأخيرة سوى بشرًا سابقين حلُّوا في أجسادٍ أخرى!
كذلك الحال بالنسبة لتلميذ أرسطو ثيوفراستوس (Theophrastus)، الذي كان يعتقد في قدرة الحيوانات على التفكير إلى درجة ما. وفي المقابل، اتفق معظم الفلاسفة وعلماء اللاهوت الغربيين اللاحقين مع أطروحة أرسطو في وجود الحيوانات بغرض استخدام البشر الذين يتميزون وحدهم بالعقل!
الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت
في العصر الحديث، عمد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes) إلى الحُكم بحرمان الحيوانات حتى من القدرة على الشعور بالألم، ومن ثم جواز سوء معاملتها وإجراء التجارب عليها.
فوفقًا للمعتقد الديكارتي، لكي يشعر الكائن الحي بالألم، يجب أن يمتلك عقلًا، والحيوانات –حسب رأيه– لا عقل لها. وطالما هي كذلك فهي لا تشعر بالألم، وبالتالي فإن تشريح الحيوانات الحية لا يبدو إشكاليًا، ويمكن القيام به دون أدنى تعذيبٍ للضمير!
اليوم لحسن الحظ، ثمة قلائل بين العلماء والفلاسفة ممن هم مستمرون في إنكار شعور الحيوانات بالألم، ورغم استمرار التجارب المنظمة على الحيوانات في كافة أنحاء العالم،
بما في ذلك ممارسات تشريح الأحياء، فإن ثمة لوائح قانونية (وإن كانت غير مكتملة) تعترف على الأقل بشكل صريح بأن الحيوانات لديها القدرة على الشعور بالألم والضيق!
الفيلسوف البريطاني جون لوك
على العكس من ديكارت، ذهب الفيلسوف البريطاني جون لوك (John Locke) إلى أن الحيوانات لديها كالبشر مشاعر، وأن القسوة غير المُبررة تجاهها خاطئة من المنظور الأخلاقي. وعلى الرغم من أن لوك لم يتحدث صراحةً عن حقوق الحيوان، إلا أنه شدَّد على أهمية منع الأطفال من تعذيب الحيوانات، وأكد على أن مثل هذه الممارسات الفجة تجاه الحيوانات تُرسخ لديهم سلوك القسوة حتى تجاه البشر!
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط
من جانبه، لم يعتقد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) أن علينا كبشر أية واجبات أخلاقية مباشرة تجاه الحيوانات. لقد كان يعتقد أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نتجنب القسوة مع الحيوانات هو أنه من خلال القيام بذلك قد نطور عادات قاسية نلحقها بالآخرين.
وفقًا لـكانط، نحن مدينون فقط بواجبات أخلاقية تجاه الكائنات العاقلة، والحيوانات ليست مدرجة ضمن الكائنات العاقلة. ومع ذلك، فإن ثمة واجبات غير مباشرة تجاه الحيوانات بعدم ارتكاب ممارسات غير أخلاقية، أو نوع من القسوة تجاهها.
الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل
أما الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل (John Stuart Mill) فقد أعلن صراحةً أن الحيوانات يمكن أن تشعر بالألم واللذة، وبالتالي فإن الأفعال التي تنطوي على التسبب في الألم يجب أن تكون مرفوضة أخلاقيًا!
جيرمي بنتام
كذلك شدَّد رائد الفلسفة النفعية جيرمي بنتام (Jeremy Bentham) على أن مبدأ النفعية (Utilitarianism) يجب أن يشمل الحيوانات الحساسة، تلك التي تستشعر المتعة والألم بصورة لا تقل عن البشر، ولذا انتقد بنثام بشدة إلحاق الألم بالحيوانات بصورة روتينية بوصفه من قبيل الطغيان الإنساني!
فكرة حقوق الحيوان وليدة التطور في الفكر الغربي
وعلى الرغم من أن الميراث الفكري الغربي كان بصفة عامة أقل احترامًا للحيوانات من الميراث الفكري الشرقي، فإن الفكرة المعاصرة لحقوق الحيوان جاءت وليدة التطور في الفكر الغربي، حيث بدأت أول حركة مهمة لحقوق الحيوان في إنجلترا إبان القرن التاسع عشر، وكان هدفها منع استخدام الحيوانات في البحوث العلمية دون تخدير.
في سنة 1975 نشر الفيلسوف الأسترالي بيتر سنجر (Peter Singer) كتابه المؤثر “تحرير الحيوان: أخلاقيات جديدة لمعاملتنا للحيوانات” (Animal Liberation: A New Ethics for Our Treatment of Animals)، ليغدو بمثابة بيانٍ فلسفي تأسيسي لحركة تحرير الحيوان (Animal Liberation Movement).
في سنة 1976 نشر أستاذ علم الحيوان الأمريكي دونالد ريدفيلد جريفين (Donald Redfield Griffin) كتابه “حول مسألة وعي الحيوان” (Question of Animal Awareness)، وهو الكتاب الذي عُد بمثابة علامة على ميلاد حركة علمية جديد مؤثرة، ألا وهي تلك التي يمثلها علم سلوك الحيوان الإدراكي، الذي يتناول سلوك الحيوان في سياق تمتعه بالوعي والرغبات والمشاعر.
القسوة اختراع بشري
أخيرًا، ورغم تشاؤمية التوقعات فيما يتعلق بالحد من استخدام الحيوانات في التجارب أو أخذ حقوقها ككائنات واعية مأخذًا جادًا، لا سيما في ظل خضوع البشر أنفسهم للتجارب من قبل بعض الحكومات، إلا أن ثمة رؤى متصاعدة نحو إيجاد قواسم حياتية مشتركة لكل من البشر والحيوانات في المستقبل، رؤى تكتسب زخمًا جماهيريًا لدى كافة الشعوب المتحضرة.
ربما لو استطاعت الحيوانات أن تتكلم لرددت مقولة الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو (José Saramago)، وأخبرتنا أن القسوة اختراع بشري، وأن الحيوانات لا تُعذب بعضها البعض، البشر فقط يفعلون ذلك، هم الكائنات العاقلة، والقاسية، الوحيدة على هذا الكوكب!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا