الطلبة والسباهية
بعد ما السلطان سليم الأول نجح في إنه يهزم دولة المماليك سنة ١٥١٧م، ويعدم آخر سلاطينها “طومان باي” ويضم مصر للدولة العثمانية، مشي، بس ممشيش كده غير لما غير شوية حاجات في نظام الحكم عشان يأيفها على الشكل الجديد اللي هتتحول فيه مصر من سلطنة إلى أيالة عثمانية.
أهم تغيير كان تغيير نظام الحكم خالص، بعد ما كان النظام القديم سلطان وأمراء بدرجات، بقى النظام الجديد غريب شويتين. أولا فيه والي عثماني تركي قاعد في قلعة الجبل مبيخرجش نهائي، مهمته هي إنه يجمع فلوس ويبعتها على تركيا أو يبلغ الشعب بأوامر السلطنة العثمانية،
سلطاته مبتخرجش برة القلعة وأسوارها، بس هو بيتكلم باسم السلطان العثماني، ومعاه حامية عسكرية بتقعد في القاهرة وما حولها، هي مهمته يحصل الضرايب ويباشر الشغل وشكرا.
ما المقصود بالسباهية؟
تحتيه على طول فرسان اسمهم “السباهية”، أو فرسان السلاح الثقيل، السباهية دول كتيبة من الفرسان كانت بتخرج في الحروب العثمانية على يمين السلطان، ولما بينجح في حرب ويضم أرض، بيسيب السباهية دول في البلد دي عشان يحفظوا نظام البلد، وبيعفيهم من أي فلوس أو ضرايب وبيديهم صلاحيات خصوصا في الريف والقرى، صلاحيات بتنافس الوالي نفسه.
النظام الجديد ده خلى فيه منافسة بين الوالي المتعين من الدولة العثمانية، وبين السباهية اللي بيعيشوا في الأرض دي وبيتغير عليهم الولاة، منافسة على مين في إيده السلطة الحقيقية ومين هيجمع فلوس أكتر بأي طريقة، السباهية اللي عايشين في مصر ولا الوالي اللي كل شوية بيتغير، جميل؟
تمرد السباهية على السلطة
والي في التاني في التالت، السباهية دول حسوا إنهم الحكام الحقيقيين للبلد مش حد غيرهم، وتمردوا على الولاة المعينين من السلطنة، وبدأوا يدوروا على أي فلوس أو أي طريقة يجمعوا بيها فلوسهم من المصريين خصوصا في القرى والنجوع والريف.
فكان أغلب شغلهم في المحافظات والريف، يجمعوا نفسهم كده وينزلوا على أي قرية ياخدوا فردة بتاع ألف جاموسة مثلا على كام غلة قمح على فلوس على أي حاجة تحت اسم الضرايب مقابل الحماية، يخلصوا على كل اللي في القرية ويمشوا، ويرجعوا تاني بعد كام شهر وهكذا، وصلت لأنهم كانوا بيقطعوا الطريق ويسرقوا التجار، واللي ميوافقش مع السلامة.
قانون الطُلبة
ولما حسوا إن اللي بيعملوه لسة قليل ومش مكفي، ابتدعوا قانون ضريبي جديد سموه قانون “الطُلبة”.
الطُلبة دي بتحصل إزاي؟ هقولك
بييجي السباهي من دول يروح لكاشف الأقليم اللي هو ماسك دفاتر الضرايب على القرى والمحافظات ده، يقوله اكتبلي مثلا إن ليا ٢٠٠ ألف نص فضة (النص فضة دي عملة عثمانية أصغر شوية من الفضة وبتاعت التعاملات التجارية)،
فالكاشف يقوله أكتبهالك إزاي؟ يقوله “اكتب إن واحد اسمه كذا اشتكى من واحد اسمه كذا في القرية اللي أنا رايحها، وعليه يكتبلهم الحكم والفلوس دي وأنا بقى أروح أحصلها”.
يعني بيزوروا موقف، بيحوروا في ورقة مزورة فيها خناقة وهمية بين أي اتنين في نفس القرية دي، ويكتبوا الفلوس اللي عايزينها، ويروحوا بيها على القرية يقولولهم ادفعوا بقى والطُلبة قدامكم أهيه مختومة ومظبطة ورسمية، طب مين اتخانق مع مين؟ ملناش فيه، مين اشتكى؟ ملناش فيه، المهم تدفعوا.
قانون نامة
الموضوع ده زاد أكتر مع وصول سليمان القانوني للحكم، وإصدار حاجة اسمها “قانون نامة”، اللي سهل فيه موضوع الطُلبة ده على السباهية بأنه خلى الوالي يختم عليها بدل السلطان، ولو مختمش هو يختم الدفتردار مكانه، فاشطة بقوا يزودوها بمزاجهم ويجمعوها بمزاجهم منهم فيهم ومحدش هينخرب ورانا.
لدرجة إن مرة في المنوفية هنا، السباهية جابوا طلبة ب١٠٠٠ نص فضة، وراحوا على قرية هناك، لقوا إن أهل القرية كلهم هربوا منها، فخلعوا الأبواب والشبابيك وباعوها في الأسواق، وهما بيدوروا في القرية ملقوش غير ست ومعاها طفلين،
فواحد من السباهية أخد الطفلين دول وحطهم في شوال وأخدهم معاه، الست شافت المنظر اتجننت وخلعت صيغتها وإدتهالهم وقالتلهم دا سعرها أكتر من الطلبة بس هات عيالي، فخرج العيال من الشوال لكن كانوا ماتوا، رماهم ليها ومشي.
طرق تعامل المصري مع السباهية
اللي حصل بقى إن الوالي العثماني اللي هو نائب السلطنة في مصر ملوش أي لازمة على الأرض، مش هامه حاجة غير إن الفلوس بتيجي وتتحصل في الخزنة وخلاص، والسباهية معاهم صلاحيات على أرض الواقع وبيضمنوا تحصيل الفلوس دي حتى لو سرقوا نصها أو بلطجوا فيها، فالمصري مننا بيلاقي إنه مطالب بدفع فلوس أكتر ما بيجيب، ولو رفض بيتضرب ويتطرد ويتهان، فمفيش قدامه غير حلين ملهومش تالت.
الحل الأول إنه يهجر الأرض ويمشي يشوف رزقه في أي حتة تانية، وده كان سبب كبير في إن أراضي كتير اتهجرت واقتصاد مصر وقع مع الوقت وبقى فيه مجاعات وأراضي بارت، خصوصا مع ضعف الدولة العثمانية هناك كمان وانشغالها بحروبها مع أوروبا.
الحل التاني بقى هو حل صعب شوية، إننا نجمع نفسنا ونشتكي السباهية دول، لمين؟ للوالي العثماني، ولما كان الوالي المعين ده بيحاول يتدخل أو يلغي الطلبة أو يخففها، كان السباهية بيقلبوا عليه، والمشكلة مبتتحلش غير بقتل الوالي نفسه، ومن هنا بدأت أول المشاكل بين السباهية والوالي.
اقرأ أيضاً:
الولاة العثمانين في مصر المتعاملين مع السباهية
“أويس باشا” أول والي عثماني
أول والي عثماني حاول إنه يلغي الطلبة دي كان اسمه “أويس باشا”، وتولى في عهد السلطان العثماني مراد التالت، السلطان مراد في عهده توسع في الجواري وفي الفتوحات والبذخ شوية فبقى فيه عجز في سداد أجور العساكر في الثغور، فبعت لأويس باشا إنه يسد هو من خزنة مصر.
فأويس يسد منين؟ حاول إنه يلغي الطُلبة ويجمعها هو ويبعتها للسلطنة، لكن السباهية محدش ييجي عليهم ولا على رزقهم، فقرروا إنهم يهاجموه وأعلنوا أول ثورة مسلحة، وفعلا في مارس ١٥٨٦م هجموا على بيت حريمه واستباحوه وسرقوا كل اللي فيه حتى الحريم نفسها أخدوها، فأويس باشا هرب نط من الشباك واستخبى منهم.
راحوا مجمعين نفسهم وهجموا على بيت قاضي القضاة ملا أحمد الأنصاري، سرقوه أعدموا القضاة اللي كانوا فيه، وبدأوا يهجموا على بيوت الأكابر يسرقوها وعلى الأسواق، لحد ما خطفوا ابن أويس باشا فجاب ورا وقرر يخليهم يعملوا اللي هما عايزينه، وساب حكم مصر ومشي.
أحمد باشا الخادم وقورد باشا
جه بعديه أحمد باشا الخادم والي على مصر، نفّض للسباهية خالص ومشاكلهم وخلاهم يعملوا اللي هما عايزينه وبدأ يقتل هو في العربان وياخد منهم فلوس يبعتها للسلطنة، لحد ما اتعزل وجه بعديه “قورد باشا” قعد سنة جمع شوية فلوس ومشي،
جه بعد كده كذا والي زي السيد محمد باشا وخضر باشا الوزير وغيرهم، ودول كانوا يا بيجمعوا فلوس ويقتلوا في الناس، وملهومش فيه بقى، يا بتقوم عليهم السباهية تحاول تقتلهم فيهربوا وتسرق أكتر وأكتر.
إبراهيم باشا المقتول
لحد ما جه مصر والي اسمه إبراهيم باشا المقتول، دا راجل كان صوفي وصاحب رأي ومش عاجبه الحال، معجبوش حتة إن السباهية بيقتلوا ويسرقوا ويلموا في فلوس ملهاش آخر من ناس فقراء أصلا، وكان توجهه إنه عايز يلغي الطلبة دي خالص ويكون هو اللي بيجمعها مكان السباهية بشكل قانوني ومنظم عشان السلطنة، فإزاي بقى تقطع الرزق عن السباهية؟
في يوم وفاء النيل، خرج الوالي ومعاه الأمير محمد خسرو وكام أمير كده عشان يحتفلوا باليوم ده، وأول ما وصل في قصر عند شبرا كده، السباهية هجموا على القصر، وراحوا هاجمين عليه هو والأمير قتلوهم، وأخدوا روسهم طافوا بيها في الشوارع وعلقوها على باب زويلة، في تحدي رسمي للسلطان العثماني نفسه، وكانت أول مرة تحصل حاجة بالشكل ده من أيام طومان باي.
محمد باشا الخادم
السلطان العثماني عرف باللي حصل، فبعتلهم والي جديد ولا كأن فيه حاجة حصلت، الوالي الجديد هو “محمد باشا الخادم”، محمد باشا لما وصل لقى فيه حرب أهلية حقيقية، شوارع متروسة وجثث، السباهية مسيطرين، فوضى في كل حتة،
فحاول إنه يحل المشكلة وبدأ يجيب اسم اسم من القادة بتوعهم ويقبض عليه ويعدمه لحد ما وصلت الإعدامات لـ٢٠٠ من قادة السباهية، والسباهية ترد بالهجوم، والمشكلة على مدار ٧ شهور متحلتش، والدم بيزيد، وهجومهم بيزيد.
محمد باشا المبطل
راح السلطان العثماني عزله، وجاب مكانه واحد تاني اسمه محمد باشا المبطل، وإداه جيش جديد لوحده، وده جه بقى وقالك خلاص مفيش هزار، وأعلن الحرب رسميا على السباهية، ووزع منشور على الأرياف كلها إنه ممنوع يدفعوا طُلبة، وأي حد يطلبها يتقبض عليه.
السباهية بقى يسكتوا؟ لا، راحوا أول حاجة عملوها احتلوا طنطا، وأخدوا كل اللي فيها من فراخ وبط وجواميس وفلوس، واستقلوا بيها، وعملوا اجتماع حرب فيها، وقرروا إنهم يقتلوا الوالي محمد باشا ده ويعلنوا الحرب رسميا، وعينوا لنفسهم والي ووزراء جداد منهم فيهم كده، حكومة مغايرة يعني وفي نيتهم يستولوا على مصر كلها.
الفتح الثاني للعثمانيين
ومش بس كده، خد الجديد.. الجديد إنهم اتفقوا على تقسيم القاهرة بينهم “كل قائد ليه حتة ومنطقة نفوذ”، تقسيم حقيقي للقاهرة ولمصر عامة، بناء على مين معانا ومين ضدنا، وقرروا إنهم ينزلوا الحرب دي ويستولوا على القاهرة،
كانت أول مرة القاهرة تتقسم بين مؤيد ومعارض، وأول حرب أهلية حقيقية تحصل على أرض مصر بين جنود عثمانيين ووالي عثماني، والمصريين في النص ملهومش فيها حاجة.
الحرب اللي حصلت دي المؤرخين بيسموها “الفتح الثاني للعثمانيين”، بسبب إنها حرب طاحنة جديدة قامت بين العثمانيين والعثمانيين، حرب سيطرة مسلحة حولت مصر لساحة حرب، اتهدت فيها الجسور، واتعملت حصون، اتهجرت فيها الأرض الزراعية والاقتصاد فيها وقع،
وبقت الحرب دايرة في الشوارع والناس مستخبية في بيوتها، حرب أهلية حقيقية لا مصر شافت ولا هتشوف زيها بعد كده، فرسان تخرج تقتل وتستخبى، وفرسان تطارد، ومناطق نفوذ، وكل ده عشان الطمع في الطُلبة، متخيل إن القاهرة اتقسّمت حرفيا!
نهاية السباهية على يد محمد باشا
استمرت الحرب لشهور، لحد ما في النهاية خرجت جيوش محمد باشا بـ٦ مدافع، وأي جندي في القاهرة ليه ولاء للسلطان العثماني، وأي حد عايز ينتقم من السباهية دول، حتى العربان والمصريين انضموا ليهم، واتجمعوا عشان يحاربوهم، في نفس الوقت اللي الحكومة الجديدة للسباهية والجيش بتاعهم كان وصل ناحية القليوبية كده، وبعد يومين قامت الحرب في الخانكة.
كانت حرب كبيرة وشد وجذب، مناورات، ناس بتتقتل، جنود بتقع، مدافع بتتضرب، بس النصر فيها في النهاية كان لمحمد باشا لأن عددهم كان أكبر من السباهية، فلما حس السباهية إنهم خسروا الحرب استسلموا، واتقبض عليهم، واحد فيهم بس حاول إنه يغتال أمير الحرب بتاع محمد باشا بالسيف وهو عامل مستسلم، لكن الحرس لحقوه وقتلوه،
وبدأوا يقبضوا على الخاينين واحد واحد ويعدموهم، ووصلت حالات الإعدام لـ٥٠ قائد، غير إن محمد باشا أمر إن أي حد موالي ليهم يتعدم، أما باقي الأسرى وكان عددهم ٣٠٠ فاتحكم عليهم بالنفي لليمن، اتكبلوا واتحطوا على جمال للسويس بالليل وركبوهم مراكب وسابوهم في اليمن.
وخصلت حدوتة الطُلبة والسباهية، وعمل الوالي محمد باشا بعد كدة شوية إصلاحات، ورجعت القاهرة مدينة واحدة مش متقسمة، وخلى الضرايب قانونية ومنظمة وبتروح للسلطان، مش للسباهية وخزاينهم.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا