مقالات

أحجار جورجيا الإرشادية ونظرية المؤامرة – الجزء الأول

Georgia Guidestones and Conspiracy Theory

في حقل هادئ ومنعزل بمقاطعة «إلبرت» Elbert County، في ولاية «جورجيا» Georgia، جنوب شرق الولايات المتحدة، ترتفع خمسة ألواح ضخمة من الجرانيت على شكل نُصبٍ رأسي، يعلوها حجرٌ سادس أفقي يربط بينها يُسمى «حجر التتويج»، كما أن بها ثقوبًا تشير إلى حركة النجوم والشمس،

منها ثقب في قلب الحجر المربع المركزي يمكن من خلاله رؤية النجم القطبي Celestial Pole (أشهر نجوم الجزء الشمالي من الكرة الأرضية) في أي وقت، وثقب ثان يشير إلى الانقلابات الشمسية السنوية (ويعمل أيضًا كمزولة أو ساعة شمسية ضخمة)، وثقب ثالث في أحد الأحجار المنتصبة يسمح لأشعة الشمس بالنفاذ إلى الوجه الجنوبي للحجر المركزي في وقت الظهيرة طوال السنة.

وعلى مقربة من هذا النصب يوجد لوحٌ حجري على الأرض نُقشت عليها معلومات عن النصب ومواصفاته؛ أبعاده، ووزن ونوع حجارته، ودلالات ثقوبه، ودُوِّن عليه أيضًا ما يفيد وجود كبسولة زمنية (مخبأ تاريخي لنماذج من العتاد والمعلومات) مدفونة تحت النُصب، وإن لم يُذكر تاريخ دفنها أو الزمن المتوقع لفتحها!

الموقع الجغرافي لنصب جورجيا الغامض

بُني النصب على ارتفاع تقريبي يبلغ 750 قدمًا (230 م) فوق مستوى سطح البحر، ويبعد نحو تسعين ميلًا (140 كم) من شرق مدينة أتلانتا Atlanta (عاصمة ولاية جورجيا)، وخمسة وأربعين ميلًا (72 كم) من مدينة أثينا Athens الجورجية، وتسعة أميال (14 كم) من شمال مركز مدينة إلبرتون Elberton. أما النُصب ذاته فيبلغ ارتفاعه تسعة عشر قدمًا وثلاث بوصات (5.87 مترًا)، ويصل وزن أحجاره إلى 237.746 رطلًا (107.840 كجم)،

اللغات المستخدمة

ويُشار إليه أحيانًا باسم «ستونهنج الأمريكي» American Stonehenge (نظرًا لتشابهه في كلٍ من التصميم والغموض الرمزي مع الأثر الصخري «ستونهنج» الذي يقع في مقاطعة ويلتشير Wiltshire جنوب غرب إنجلترا، والذي يرجع تاريخه إلى أواخر العصر الحجري وأوائل العصر البرونزي).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا يعرف أحد على وجه الدقة الجهة التي تقف وراء بناء هذا النُصب، ولا الهدف من بنائه، لكن ثمة رأيًا مفاده أنه بُني خصيصًا لتوجيه البشرية بعد حدثٍ مُروع سيقع في المستقبل القريب، وسيؤدي إلى فناء أغلب البشر، حيث يحمل النُصب رسالة تتألف من عشرة مبادئ إرشادية، أو عشر وصايا توجيهية، محفورة بثمان لغات مختلفة، لغة واحدة على كل وجه من أوجه الأحجار الأربعة المُحيطة بالحجر المركزي،

وهي: الإنجليزية، الإسبانية، السواحيلية Swahili، الهندية، العبرية، العربية، الصينية التقليدية، والروسية. أما الحجر الأفقي أعلى النُصب (حجر التتويج) فيحمل رسالة أساسية بالإنجليزية مؤداها: «لتكن هذه أحجارًا إرشادية لعصر العقل» Let these be guidestones to an age of reason، مصحوبة بترجمات على حوافه الأربعة، وفي اتجاه عقارب الساعة، إلى أربع لغات منقرضة، وهي البابلية (بالكتابة المسمارية)، واليونانية الكلاسيكية، والسنسكريتية، والمصرية القديمة (الهيروغليفية).

اقرأ أيضاً:

السياحة في أذربيجان إحدى أجمل جمهوريات القوقاز

ماذا تعرف عن قلعة حصار طاجيكستان

ميدان تيان آن مَنْ

وصايا النصب

يمكن تقسيم الوصايا العشر التي تحملها الرسالة المنقوشة باللغات المختلفة إلى أربعة مجالات رئيسة، وهي: نظام الحكم وإنشاء حكومة عالمية، والتحكم في السكان والتكاثر، والبيئة وعلاقة الجنس البشري بالطبيعة، والروحانية Spirituality. ورغم وضوح بعض هذه الوصايا، إلا أن بعضها الآخر يُثير جدلًا ونقاشًا واسع النطاق حول ما يمكن أن تتضمنه من معانٍ ودلالات خفية تتعلق بتخطيطات محتملة لمستقبل البشر من قبل منظمات سرية، ما يدفعنا إلى إعادة تأملها من حين إلى آخر،

وهي مرتبة كالتالي:

  1. أبقوا عدد الجنس البشري أقل من 500,000,000، ليبقى في توازن دائم مع الطبيعة.
  2. وجهوا التناسل بحكمة، مع تحسين اللياقة والتنوع.
  3. وحدوا الجنس البشري بلغة حية جديدة.
  4. تحكموا بالعاطفة، بالعقيدة، بالتقاليد، وبجميع الأشياء بمنطق معتدل.
  5. احموا الناس والدول بواسطة قوانين عادلة ومحاكم منصفة.
  6. دعوا جميع الدول تحكم داخليًا مع تصفية المنازعات الخارجية في محكمة العالم.
  7. تجنبوا القوانين التافهة والموظفين عديمي الفائدة.
  8. وازنوا بين الحقوق الشخصية والواجبات الاجتماعية.
  9. أجّلوا الحقيقة، الجمال، والحب، ملتمسين الانسجام مع اللا نهاية.
  10. لا تكونوا سرطانًا على الأرض، أفسحوا مكانًا للطبيعة.. أفسحوا مكانًا للطبيعة.. أفسحوا مكانًا للطبيعة.

حقيقة نصب جوروجيا

لا شك أن بعض هذه الوصايا يتسم بالحكمة والنبل، ومن ثم يستحق الثناء ومحاولة التطبيق، لكن أغلبها في الحقيقة يحمل أفكارًا تستدعي بقوة نظريات المؤامرة بأشكالها المختلفة، لا سيما تلك التي تتعلق بطوفان العولمة وهيمنة رأس المال وبقاء الأصلح ومناهضة الأديان.

لا شك أيضًا أن ثمة تفسيرًا جديرًا بالتأمل لهالة الغموض التي أحيط بها النُصب وبُناته، مؤداه أن هذا الغموض لا يعدو أن يكون مجرد نوعٍ من أنواع الترويج السياحي للنُصب ولولاية جورجيا ، لكن الأحداث الجارية تقدم سببًا للتوقف وإعادة التفكير في الأمر منذ بدايته.

تاريخ نصب جورجيا الغامض

تبدأ قصة النُصب في أحد أيام الجمعة من شهر يونيو سنة 1979. حين ظهر رجل ذو شعر رمادي يرتدي ملابس أنيقة في مقاطعة «إلبرت»، وقدَّم نفسه للسيد «جو فيندلي» Joe Fendley (رئيس شركة إلبرت لأعمال الجرانيت) باسم «آر سي كريستيان» R. C. Christian، ربما في إشارة إلى «كريستيان روزنكريوز» Christian Rosenkreuz أو «كريستيان روز كروس» Christian Rose Cross،

وهو اسم مُستعار لشخصية تاريخية أسطورية ترجع إلى العصور الوسطى، ويُنسب إليها تأسيس «نظام الصليب الوردي» Order of the Rose Cross إبان القرن السابع عشر، وقد كان هذا النظام بمثابة مدرسة سرية تهدف إلى تفعيل التطور الروحي للبشر من خلال مزج المسيحية ببعض تعاليم الحكماء العرب والأتراك والفرس.

اعترف «كريستيان» بأن هذا ليس اسمه الحقيقي، لكنه رفض الإفصاح عن هويته، مؤكدًا فقط أنه يُمثل مجموعة من الأمريكيين المخلصين، هدفهم هو بناء نُصب تذكاري يحمل رسالة بعدة لغات للأجيال الحالية والمستقبلية، ويعمل كتقويم وبوصلة وساعة، بشرط أن يتحمل الأحداث الكارثية!

شراء موقع النصب سنة 1979

لم يهتم «فندلي» بالرجل في بداية الأمر، وظن أنه يتعامل مع شخص مُختل عقليًا، ولكي يصرفه أوضح له أن هذا العمل سيتطلب عددًا كبيرًا من الأجهزة والأدوات، لكن «كريستيان» أومأ برأسه بالموافقة،

فقدَّم له «فندلي» عرض أسعار يفوق التكلفة الفعلية للمشروع عدة مرات، ولكن مرة أخرى، بدا «كريستيان» غير مُبال، فما كان من «فندلي» إلا أن أرسله إلى «وايت مارتن» Wyatt Martin (رئيس بنك جرانيت سيتي Granite City Bank)، وربما كان هذا الأخير أحد الأشخاص الذين رأوا هذا الرجل الغامض وتحدثوا معه أكثر من غيرهم!

في غضون ذلك، قدَّم «كريستيان» نموذجًا مُصغرًا للنُصب مصحوبًا بعشر صفحات للمواصفات المطلوبة، وتم بالفعل شراء الموقع الذي تبلغ مساحته خمسة أفدنة في الأول من أكتوبر سنة 1979، ومُنح مالكه (واين مولينكس Wayne Mullinex) وورثته حق رعي الماشية مدى الحياة في السهول المحيطة بالأحجار الإرشادية.

الاستعانة بعالم فلك من جامعة جورجيا

ولأن المواصفات المطلوبة كانت على قدر كبير من التعقيد، كان على شركة البناء أن تستعين بعالم فلك من جامعة جورجيا، لكن الجدل حول النُصب بدأ وتصاعد حتى قبل انتهاء البناء. يذكر «وايت مارتن» في هذا الصدد أن كثرة من الناس طالبوه بوقف هذا العمل الشيطاني، بل واتهموه بأنه جزءٌ من حركة غامضة ذات أهدافٍ خبيثة!

وفي الثاني والعشرين من مارس سنة 1980، تم كشف النقاب عن النُصب أمام جمهور لا يتجاوز عدده مائة شخص (أو أربعمائة شخص في رواية أخرى)، وبعد الافتتاح قام «كريستيان» بنقل ملكية الأرض والنُصب إلى مقاطعة «إلبرت»، ومع ذلك لم تحل هذه الخطوة دون استمرار السخط على النُصب ومحاولات تشويهه،

تشويه الأحجار

ففي سنة 2008 تم تشويه الأحجار بطلاء البولي بوربثين، وكتابة شعارات من قبيل «الموت للنظام العالمي الجديد» Death to the new world order، وقد وصفت مجلة «وايرد» Wired الأمريكية هذا التشويه بأنه أول عمل تخريبي خطير منذ بناء الأحجار الإرشادية، وفي سبتمبر من سنة 2014 تلقى مكتب التحقيقات الفيدرالية بلاغًا من أحد موظفي قسم الصيانة بمقاطعة «إلبرت» بأن بعض الناشطين قد تعمدوا تشويه الأحجار بكتابة عبارات رافضة، منها عبارة «أنا إيزيس، إلهة الحب» I Am Isis, goddess of love!

ماذا إذن عن فحوى رسالة النُصب الأساسية ووصاياه العشر؟ ولماذا كانت هدفًا لنظريات المؤامرة؟ وما خطورة ما تدعو إليه أو تُبشر به؟

 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية