سارق ومسروق – الوجه الخامس والعشرون
أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"
حين نظر السارق إلى المرآة رأى قفاه ، كانت المرة الأولى التي يراه كاملا، فكل مرة جلس فيها إلى الحلاق، كان يلمح بعينيه طرفا منه، حين تقع عليه مرآة الرجل كي يريه إياه، فيطمئن إلى سلامة الحلاقة! ولأنه ينشغل بالصغائر دوما، لم تمر مرة إلا وكان يطلب من الرجل أن يعمل فيه المقص والموس، وهو يقول له:
ـ الانضباط يبدأ من حلاقة الرأس.
رآه كاملًا، وأفزعه كم هو عريض ومتبلد، وكأنه قد خلق لتلقي صفعات متوالية! أغمض عينيه، وتقهقر خطوات إلى الخلف، وحين فتحهما وجده يملأ المرآة، وتظهر فيه دمامل صغيرة جدا، ما إن يمعن النظر فيها، حتى تكبر، وتنضح بالدم والقيح!
مد يده إلى قفاه مذعورا، وأعادها فلم يجد فيها أثرًا لشيء مما يراه! لكنه أدرك أن وجهه هو الذي يتجه إلى المرآة وليس قفاه كما يظهر له فيها، فدفع يده كي تتحسس الوجه، لعله هو الدامي المتقيح! غمس أصابعه قوية، وحكها كأنه يجلي حد سكين ثلم، ورفعها على عجل، وقدمها إلى عينيه فلم ير فيها شيئًا.
ارتجاف السارق
ـ من أين أتى الدم والقيح؟
سأل نفسه مذعورًا، وتلفت حوله، فلم يجد أحدًا يجيبه، وفهم أن عليه وحده أن يدرك ما رآه وجرى له، فلم يعد أمامه من سبيل سوى أن يبرز جانبه الأول للمرآة. الكتف والجنب الأيمن وفخذه وساقه، فهو ممن يقولون دوما: في اليمين بركة.
لكن هذا لم يسعفه، فاستدار بجانبه الأيسر، وبحث عن شيء فيما يحفظه ليبرر له ما فعله، ويطمئنه إلى أن الأيسر، ليس بالضرورة في جهنم، لكن هذا لم يسعفه، فاستدار بجانبه الأيسر، وبحث عن شيء فيما يحفظه ليبرر له ما فعله، ويطمئنه إلى أن الأيسر ليس بالضرورة في جهنم، إنما هو من اليسر، وربما خيار الغلابة الذين يقفون على جوانب الطرق والأرصفة ويسكنون الغرف الضيقة فوق البيوت، أو يجلسون مشردين في الشوارع المفتوحة على غربتهم ووجعهم.
دفع الأيسر إلى المرآة منتظرا أن يرى شيئا مختلفا، لكن لم يبد له أحمر ولا أصفر، فسأل نفسه وهو يرتجف:
ـ من أين يأتي أحمر الدم، وأصفر القيح؟ من أين يا ترى؟!
اختلط كل شيء
لم يجد إجابة، فدفع يداه إلى هامته، يدير القفا ليصبح وجها، والوجه ليصبح قفا، فوجد نفسه متحيرا بين ما يستطيع أن يقول له بملء فيه: هذا وجه. أما ما يثق في أن يقول:
ـ هذا قفا.
ذلك لا ثقة فيه، لأن الوجه صار قفا، والقفا لم يعد بوسعه أن يكون وجها. اختلط كل شيء، فصار مبهما، حتى أنه تمنى في هذه اللحظة لو رأى وجه المسروق الأول، أو حتى الثاني في المرآة، لكن كل طلاته إلى الجسم المصقول الناعم لم تمنحه سوى الصور،
التي رأى نفسه فيها مجرد قفا عريض مملوء بالدمامل والبثور والثغور المفتوحة على ألم لم يحل في جسده بالقدر الكافي ليزلزله؛ فيدرك أن ما هو فيه ليس له أبدا مثيلا، إنما هو شيء صنعه إحساس يزوره فجأة ثم لا يلبث أن يزول.
اقرأ أيضاً:
الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع
الوجه الخامس، الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع
الوجه العاشر، الوجه الحادي عشر،الوجه الثاني عشر ، الوجه الثالث عشر
الوجه الرابع عشر، الوجه الخامس عشر،الوجه السادس عشر، الوجه السابع عشر
الوجه الثامن عشر،الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون، الوجه الحادي والعشرون
الوجه الثاني والعشرون، الوجه الثالث والعشرون، الوجه الرابع والعشرون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.