الشَّتيتان
الإنسانية تقتضي فعل الخيرات والبعد عن المنكرات، وتدعو إلى التجميع وليس التفريق، وتؤكد على لَمّ الشمل وليس نفث سُم البُغض والحقد والكراهية.
قد يجمع الله الشتيتيْن بعد الافتراق والطلاق، واستحالة العِشْرَة، بل أبعد من ذلك، قد يجتمعان بعد أن يتزوج كل منهما بشخص آخر بعقد صحيح وشروط سليمة.
قد يجتمع الطرفان بعد أن يظنا أن لا عودة ولا كلام، من أجل هذا نرى الجمال في الرحمة والرأفة والتراحم، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، فهو الأفضل شيمًا والأعلى خُلُقًا والأرقى منزلة والأكثر تواضعًا، ولهذا يقول الشاعر قيس بن الملوح:
وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
حتى التناجي بين اثنين دون الثالث من الأمور الممقوتة التي لا يقبلها عقل ولا دين، للحفاظ على الروابط والتمسُّك بالوشائج واستمرارية التواصل، ولهذا: “إِذا كُنْتُمْ ثلاثة فلا يتناجى اثْنَان دُونَ الآخَر حتى تَخْتَلِطُوا بِالنّاسِ؛ مِن أجل أنَّ ذلك يُحْزِنه”، إنه الرقي في المعاملة والشعور بالآخرين وحسن مجالستهم ومحادثتهم.
هل يلتقي الشتيتين؟
ينسحب هذا على الأفراد والجماعات بل وعلى الدول، فبكل سهولة يمكننا أن نرى دولة تشن حربًا لا هوادة فيها ليل نهار على دولة أخرى ووصفها بالمُعادية ومُكدّرة لصفو غيرها، وبين عشية وضُحاها تُصبح صديقة وحبيبة وتعود الوشائج وتظهر المصالح المُشتركة، والأحاديث الإعلامية تتغير بزاوية مائة وثمانين درجة.
نرى في العصر الحديث أنه قد يتعاون الخصمان في الانتخابات، ويضع كل منهما يده في يد الآخر من أجل المصالح وترجيح كفّة دون كفّة، وربح أفراد وأحزاب على حساب آخرين.
في الحروب التي لا هوادة فيها في العصر الحديث نتابع على شاشات التلفاز التشريد المجاني والطرد والبيات في العراء بلا مأوى أو عائل، من الممكن أن يظل هذا لسنوات، ولهذا تعرّفنا على مصطلح “الشتات”، أي الذين في خارج بلادهم، ثم يحدث التلاقي والاجتماع مرة أخرى، طالت الفترة أم قصرت للأهل والأصدقاء في نفس البلد أو خارجها.
في المصارعة كذلك، نجد مساعدة الخصمان واجتماعهما على حساب ثالث من أجل خسارته وإخراجه من حلبة المصارعة والقتال والمُنافسة، على الرغم أنهما خصمان لا يطيق أحدهما الآخر.
ثقافة التسامح وترك الجدال
ما كعب بن زُهير عنا ببعيد، في قصيدته “البُردة، بانت سعاد”، وقد جاء مسلمًا معتذرًا نادمًا على ما بدر منه، بعد إهدار دمه، فأهداه النبي بُردته، فأصبحت قصيدته من أشهر القصائد وأنفسها.
بل وعلى مدار التاريخ نجد في كل بلد خصومًا ضد بعضهم، لكن عندما تحلّ كارثة أو مصيبة على مجتمعهم فإنهم يتكاتفون ويتعاضدون سويًا، ويصبحون يدًا واحدة في وجه العدوان أيًا كان.
كذلك جاء في الثقافة الصينية أنّ الرجل الكامل الخُلق لا يُنازع، فإن قيل لا بد له من نزاع فإنما ذلك في رماية السهم، لكنه يُسلّم على منافسه بالانحناء ثم يرتقي معه إلى قاعة المنافسة، ثم ينزل معه بعد أن يسلّم عليه بالانحناء، ثم يسلّم الغالب منهما على المغلوب بالانحناء، ثم يرتقي المغلوب إلى قاعة المنافسة لتناول شراب الغرامة وهو لا يزال في هذا النزاع كامل الخُلق.
إنها ثقافة لا يعرفها أصحاب القلوب الميتة والنفوس المريضة والأفكار السوداء، ثقافة التسامح والصفح والبعد عن الجدال والخصام والوقيعة والكراهية، إننا نحتاج بالفعل إلى التقارب والتآلف في وجهات النظر وصفاء القلوب.
سلاح ذو حدين
هنا نتساءل: هل التكنولوجيا وعصر العولمة تعمل على التقارب، أم أنها زادت الفجوة والجفوة؟
الحقيقة أنها سلاح ذو حدّين، فالتقنية عملت على تقريب الزمان وتسهيل البحث والاطلاع، لكنها تفتقر روح العاطفة والتقارب، عملت على فقد الناس أو على الأقل إضعاف عمل الحواس، فيمكن الاكتفاء بالاتصال بذوي القربى والأصدقاء حتى في المناسبات المهمة، الأمر يتطلب إعادة ضبط تشغيل الحواس من جديد.
مقالات ذات صلة:
التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا