هل تختلف حقيقة الواقع باختلاف نظرتنا له؟
تلاقي صديقان من قسم الفلسفة وتناقشوا حول حقيقة الوجود وأن بعض الفلاسفة وجدوا أن الصدفة هي ما أحدثت العالم ولكن الآخر عارضه الرأي قائلاً : كيف لشيء مُتقَن ومُقَنن أن يصاغ من خلال العشوائية؟!
وتجادلوا حتي رأي أحدهم أنه من الأفضل أن يسألوا أستاذهم في المادة ليحكم بينهم وليقدم لهم الأدلة ليكتشف أي منهما على صواب، فذهبا إلي مكتب أستاذ الفلسفة وأطلعوه على خلافهم .
الاختلاف على الوجود لا يلغي حقيقته
فقال الأستاذ: دعونا نبدأ في البداية بمثال مهم واجب أن نعلمه لأنه قاعدة أساسية لموضوع حديثنا، ثم أشار إلي فازة على مكتبه قائلًا أترون تلك الفازة؟! فأجابوه؛ نعم.
فقال الأستاذ : إذن جميعنا أدرك وجود تلك الفازة، ولكن دعونا نسأل سؤال آخر ما لونها؟!
فأجاب أحدهم بأنها زرقاء فاتح لونها وأجاب الآخر بأنها زرقاء غامق لونها.
فقال الأستاذ؛ إذن بعد أن اتفقنا على وجود تلك الفازة في البداية؛ اختلف كلاكما على لونها صحيح؟ أجابوا بنعم.
الأستاذ: هل لو اتفقنا نحن الثلاثة على عدم وجود الفازة ، يلغي ذلك الاتفاق حقيقة كونها موجودة فعلاً؟
فأجابوا : حتماً لا
الأستاذ: إذن إدراكنا لما هو كائن ( ما هو موجود في الواقع ) إن كان صائبًا أو خاطئا تظل الحقيقة كما هي؛ صحيح؟
أجابوا : نعم.
صاحب الإدراك الصحيح
الأستاذ: إذن في رأيكم من هو صاحب الإدراك الصحيح؟!
بعد فترة صمت أجاب أحدهم : أعتقد، صاحب الدليل.
فسأله الأستاذ : وما الدليل هنا؟
فأجاب : الحواس.
الأستاذ: صحيح أحسنت، ولكن هل الحواس تدرك كل شيء؟
قالوا : لا، حتمًا هناك أدوات أخري.
الأستاذ : صحيح أحسنتم ، وذلك هو نصف إجابة سؤالكم، ولكن الآن ما هي الآداة التي سنستخدمها في الإجابة علي تساؤلكم؟هل حدث العالم بالصدفة أم بمحدث له؟
أجابوا بلا تردد : العقل.
لابد من وجود علة
الأستاذ : صحيح، ولكي نبدأ باستخدام العقل لا بُد لنا أن نتذكر بديهياته حتي نعتمدها كمرجع لنا. كما تعلمون أن مبدأ العلية هو أن لكل معلول علة أو لكل شيء سبب.
ولأن العالم معلول؛ فحتمًا لابد له من وجود علة
إذن نصل لنقطة خلاف وهي هل الصدفة علة؟!
قد نسير في غابة مليئة بالأشجار وفجأة نجد منزل بطراز جميل فنتسأل من الذي بني ذلك المنزل؟ بعد أن استيقنا أن ذلك المنزل من طبيعته أنه متقن الصنع؛ فحتمًا هناك صانع ماهر قد أنجزه وحتمًا لو قال أحد بأن ذلك المنزل الجميل في وسط تلك الغابة قد سقط من السماء صدفة، لبدأ كل منا بالضحك وشكَّك في قوي ذلك الشخص العقلية.
وهنا يظهر أننا بحاجة لأن ندرك طبيعة المصنوع لنحكم على الصانع، وحتمًا لن ننفك عن قاعدة أن كل ما هو موجود حتمًا أوجده واجد وإلا لكان هذا جنون.
الحقيقة واحدة
وهنا نأتي لنقطة مهمة ألا وهي أي منهجية يتبعها من يعرض الرأي؟! وأي أداة معرفية يستند إليها؟!
فحتماً لن يستطيع أحد أن يجلب لنا كيلو من السعادة في زجاجة لنستقيها فنسعد. فتلك أمورًا معنوية لا تري بالعين ولا تمس ولا يمكن لأي أداة إدراك مادية أن تدركها؛ فهي في الحقيقة في مجال آخر من ذلك الواقع، ولابد أن ندركها بأداة من نفس المجال فتكون معنوية ومجردة مثلها.
فيمكنها أن تدركها حينها وتلك الأداة هي العقل وهي آداتنا المعرفية المُدركة، فنجد على مدار التاريخ أناس قد اختلفوا وظن كل منهما أنه أصاب حقيقة الواقع، وهو في الحقيقة مخطئ قد يكون أحدهم أخطأ في استخدام أداة الإدراك المناسبة أو قد يكون في الحقيقة باحث غير متجرد يبحث عن ما يثبت ويرسخ رأيه بأدلة داعمة لقصور رؤيته وضعفها، ولكن في الحقيقة أن الواقع دائماً له حقيقة واحدة مهما اختلف الناس عليها.
فإن عادوا وقدم كل منهما برهانه المطابق للواقع أقام الحجة على البقية، ولكن ذلك نادر الحدوث يا أحبابي إلا لأصحاب القلوب اللينة التي لا يقف الكبر أو الهوي في طريقها فيعميها عن الحقيقة ويجعلها تستمر في طغيانها وعميانها وقد يُظهر ذلك مثالنا للفازة.
فقد اختلفتم علي لونها ولكن حقيقتها واحدة فلنأتِ بها ونتحقق مِن الذي أصاب الحقيقة وما السبب الذي جعل غير المصيب يخطأ في الإدراك؟!
الخطأ في الإدراك
قام الأستاذ وأتي بالفازة فإذا لونها أزرق فاتح فأشار للطالب غير المصيب وقال له ما السبب في رأيك الذي جعلك تخطيء؟
فقال مبتسمًا ربما نظري قد ضَعف.
فنادي الأستاذ صديقه الآخر وقال له اذهب وضع الفازة مكانها وقف بمكان صديقك واجعله يقف هو في مكانك.
وبعد أن غير كل منهما مكانه سألهما المعلم كليهما ما لونها الآن؟ فأجاب غير المصيب قائلاً أنها أصبحت زرقاء فاتح لونها
وأجاب الأخر قائلا وأنا صار لدي اللون غامق فطلب الأستاذ من كليهما أن يقتربا.
الأستاذ : الجانب الفاتح سطع عليه ضوء النافذة فأظهر اللون الحقيقي، والجانب الآخر مع غياب الضوء ظهر بشكل غامق.
ومن هنا دعونا نستخلص درسًا مهمًا جداً، ليس في دراستكم للفلسفة وحسب بل لباقي حياتكم
إن الواقع له حقيقة واحدة ورغم ذلك نختلف في إدراكه وسبب ذلك الاختلاف هو وجود من يخطئ الإدراك سواء باستخدام أدوات معرفية أخري غير التي يتطلبها الواقع أو بأنه لا يستخدم الأدوات المعرفية من ( حس وتجربة ، عقل ، ونص ديني ) استخدامًا سليمًا
ومن يقم بإساءة استخدام تلك الأدوات فريقان أحدهما أخطأ عن عدم فهم لطبيعة استخدام تلك الأدوات ، وأحدهما يُطوع الأمر لخدمة نفسه ومصلحته فيخطأ عن قصد بعدما هزمته نفسه فرجح منفعته على حساب الحقيقة.
واعلموا جيدًا أن التجرد لمعرفة الحقيقة هو أيسر السبل لبلوغها، وأن من يملك قدرة ما علي إدراك جزء من الحقيقة هو في الحقيقة يحمل أمانة في عنقه لكي يُظهرها لمن يقف في زاوية مختلفة عنه لكي يصيب هو الآخر إدراك الحقيقة
كما حدث بينكم حينما استبدلتم أماكنكم؛ أدرك غير المصيب بعد ذلك الحقيقة.