فن وأدب - مقالاتمقالات

مصطفى بيومي .. رجل أضناه التعبد في محراب الأدب

ما إن تبحث عن أي أديب مصري كبير، أو أي قضية تناولها الأدب، حتى يخرج لك مصطفى بيومي من بين سطور الكتب، كونه واحدًا من أهم مؤرخي الأدب ومصنفيه بمصر في نصف القرن الأخير، بل هو متفرد في نظرته الشاملة، وهو يتلمس تاريخ النقد، ويتتبع تاريخ الأدب، ويفحص أيام الأدباء وسيرهم.

يزيدك في هذا أن الرجل لم يقتصر على نقد كثير من إنتاج أعلام الأدب وقضاياهم وتسجيله وحصره وتفكيكه وبعثرته وترتيبه وتنظيمه وهندسته، إنما نفذ من هذا كله إلى نقد نصوصهم، وهو في هذا متميز، من زاوية ربط النص بسياقه، وأخذه إلى آفاق أرحب في التفسر والتأويل.

مصطفى بيومي، ابن بلدي المنيا الذي عصرته الدنيا وهصرته، لم يبخل بجهد ولا وقت على الأدب وغيره من المعارف، فهو متعدد الاهتمام والاطلاع والكتابة، له في كل اتجاه سهم وفي كل جمع قول، أخلص للأدب قراءة وكتابة حتى أضناه وسلى جسده وأورثه أسقامًا، تقعد غيره فلا يقدر على حملها، أما هو فيقوى على ضعف الجسد بقوة الروح ومضاء الإرادة وحضور الرغبة، التي لا تتوقف في إضافة شيء جديد إلى الثقافة، بعيدًا عن أي هرج أو مرج، وكيف يهرج الزاهدون العاكفون في صوامع المعارف والفنون؟!

عرفت مصطفى بيومي منذ زمن بعيد، وتابعت ما يكتبه كله، وأكبرت له جهاده في سبيل الانتصار للجمال والمعرفة، لكني، ولأسباب تخصني، أجد نفسي ضعيفًا حيال كتاباته عن المنيا، فأنا ابنها، وهو قادر طوال الوقت على أن يذكرني بها، كابن مخلص لهذه المدينة التي كان وديعة رائعة جميلة وجار عليها الزمن، فصارت إلى حال أخرى يجرحه القبح والفوضى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يستحضر بيومي المنيا التي كانت، ويغمض عينيه كأنه يريد أن يقبض على الصور التي راحت، ثم يزفر متألمًا على ما جرى لهذه المدينة، فبناياتها الجميلة الخفيضة هدمت وقامت مكانها عمارات قبيحة، والسينمات الثلاث التي أدهشته وجعلته يتعلق بنجوم الفن، فيكتب عن المنسيين منهم، هدمت منها اثنتان، وكورنيش النيل الذي كان حرًا طليقًا، يلثمه الشارع الأول في المدينة برفق من الغرب، والمياه السارية الجارية في هدوء من الشرق، انتبهت إليه الرأسمالية الطفيلية والبيروقراطية الشائخة، فاقتطعت منه ما شاءت، وحالت دون وصول الناس إلى أغلبه. أما البشر، الذين أفرد لهم روايته البديعة “ناس من المنيا”، فرحلوا عن دنيانا تباعًا تاركين في رأسه ذكريات مفعمة بالحنين والشجن.

جمع مصطفى بين خلفيات شتى أعانته على الوعي والفهم والتأمل، فأبوه من أصول ريفية، فجعل همزة الوصل بينه وبين القرية قائمة، والأب موظف سكن المدينة، فنشأ فيها ليكون من أبنائها المستورين الذين يلتقطون ما تجود به كله من معرفة وجمال وطرائق عيش. والابن هو الفتى الذي جاء إلى العاصمة مبكرًا ليلتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، فعرف ثقافة مدينة أخرى، كبيرة متجهمة موحشة ومتوحشة، لا تعطي عوارفها إلا لمن يملك مفاتيحها. لكن المنهل الأكبر الذي غرف منه بلا قناعة ولا اكتفاء، هو الكتب التي يقرؤها بنهم ويستعذبها بشره، ويستقطر معانيها على مهل، غير مكتف في هذا بالأدب الذي يحبه حبًا جمًا، إنما بمختلف ألوان المعرفة، وهي مسألة لا تخطئها أذن من يستمع إليه، سواء أيام كان صوته جهورًا طليقًا في شبابه، أو حين صار واهنًا متقطعًا، حين بات على أبواب الخامسة والستين من عمره، يكتب للناس وصايا الرحيل كل ليلة على صفحته بفيسبوك، لكننا كلما قرأناها دعونا له بطول العمر، ليتم ما بدأه، وهو كثير لا أرى له نهاية، إلا حين تأتي الإغماضة الأخيرة التي لا بد لها من مجيء، كحال كل حي يدب على هذه الأرض، أو نبتة ترقص في النسائم الرخية.

لم يسع مصطفى إلى أن يخطف من القاهرة مفاتيحها كلها، وما أكثرها وأقساها، إنما اختار مفتاحًا واحدًا لا يفكر فيه سوى أولياء المعرفة وأصفياء الفن والساعون إلى أمل بعيد، ومجتمع آخر يسوده الجمال والعدل والحرية، كيف لا وهو أكبر المتخصصين في العالم العربي في دراسة نص نجيب محفوظ ذلك الرجل العظيم الذي كان بطله الأثير يحلم دائمًا بأن يشرق النور، وتأتي العجائب، ويرعى العجل مع الشبل، والذئب مع الغنم، حين يعود الفتوة الغائب “عاشور الناجي”.

بعد سنوات طويلة، لن يستطيع الساعون إلى نصوص أدباء كبار؛ نجيب محفوظ، بهاء طاهر، علاء الديب، صنع الله إبراهيم، فتحي غانم، أن يتجاوزوا ما كتب مصطفى بيومي، فهو وضع معاجم للشخصيات التي حفلت بها روايات هؤلاء وقصصهم، وكتب عن كثيرين غيرهم مقالات ودراسات وكتب، وشارك في نقاشات ومشافهات عن مختلف الأجيال بما فيها أبناء أيامنا الذين رأت أعمالهم الأولى النور. الأمر نفسه بالنسبة إلى شخصيات سينمائية بديعة، من الموهوبين الذين لم يكونوا في أي يوم من نجوم الشباك، فقد كتب مصطفى عنهم بمحبة وإخلاص، وحتى كتبه عن رواد الاستثمار من الكبار الراحلين ستبقى مفيدة. ومع النقد والتأريخ الأدبي والاجتماعي أبدع مصطفى عشرة كتب روائية وقصصية.

سيعود باحثون ونقاد وكتاب وطلبة علم إلى ما تركه مصطفى بيومي، وسيكتشفون كم كان هذا الرجل دؤوبًا متفانيًا متعبدًا في محراب الأدب، وحين يقرأون سيرته، سيدركون كم كان بسيطًا زاهدًا، ليله أرق، وأكله ورق، لم تعطه الكتابة سوى ما يقتات به ويطعم أهله، مما يملأ بطون المعذبين في الأرض.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

توفيق الحكيم من فنان الفرجة إلى فنان الفكر

بهاء طاهر .. رحلة مثمرة في نهر الأدب وعلى ضفتيه

صُنع الله إبراهيم».. في مواجهة صندوق الأكاذيب!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة