فن وأدب - مقالاتمقالات

توفيق الحكيم من فنان الفرجة إلى فنان الفكر

كانت الفكرة السائدة عن المسرحية في بداءتها أنها فن أدبي يكتب ليمثل فوق خشبة المسرح فقط، وهذه عقبة عاقت أدب “الحكيم” في بداياته، إذ كانت طموحاته أن يؤسس فنًا مسرحيًا يُقرأ، ويحمل الأفكار الخالدة، لكنه أحب أن يساير الحركة المسرحية آنذاك فكتب أعماله “علي بابا، العريس، خاتم سليمان” التي مثلتها فرقة “عكاشة” على مسرح “الأزبكية”، فجاءت هذه المسرحيات أقرب إلى الاستعراض منها إلى التأليف الدرامي السليم، القائم على بناء فني محكم وشخصيات مرسومة في دقة وحوار درامي عميق، بل إن منها ما خرج إلى حد المبالغات التي جعلتها أقرب إلى الكاريكاتير منها إلى الصورة الفنية للحياة، وهذا ما دعا “الحكيم” إلى الإضراب عن نشرها منفردة، إذ كانت هذه الأعمال ترمز إلى إرضاء الجمهور دون الاعتداد بالقواعد الفنية المسرحية.

ولما لم تتماشَ هذه الأعمال مع مواهب الحكيم وميوله، فإنه اختار أن يغير مساره الإبداعي، ويمم وجهه شطر الاتجاه الذهني الذي يتسم فيه التعبير بالعمق الفكري، وبذا خرج من مرحلة فنان الفرجة إلى مرحلة عمق الفكرة وتقديم الإصلاح أي مرحلة فنان الفكر.

تمثل ذلك الاتجاه عند الحكيم في كتابة القَصص الذهني في مجموعتيه “عهد الشيطان وأرني الله”، والمسرحية الذهنية التي عُنيت بإقامة الصراع المسرحي داخل الذهن البشري، كأن الأفكار بشر ارتدى ثوب الرموز ليتصارع داخل ذهن القارئ، وهذه الذهنية تبناها “الحكيم” بعد سفره إلى فرنسا، ومشاهدته الأعمال المسرحية العالمية لكبار رواد هذا الفن، فرجع مشبعًا بالفكر والفكرة التي أراد تنفيذها في أعماله بعد ذاك، وهي أن يكتب مسرحيات لتقرأ وتدرس في المعاهد والجامعات، وتكون صالحة كأجناس أدبية مقروءة كما أنها صالحة لأن تمثل.

لم يقصد الحكيم قط إلى إهمال الناحية التمثيلية عند تأليف مسرحياته، وإنما ساقه كبرياء الفنان في فترة من فترات حياته إلى المناداة بفكرة المسرحية التي تكتب للقراءة فقط، إلا أن تلك الأعمال لم تحظ بالإخراج والتمثيل اللذين يضمنان لها النجاح الجماهيري.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد اشتكى “الحكيم” من هذا الأمر إذ يقول: “دهشت وتخوفت يوم فكروا في افتتاح “الفرقة القومية” عند إنشائها برواية “أهل الكهف”، ولقد راجعت القائمين بالأمر حينما سألوني الإذن في تمثيلها، فلما طمأنوني تركتهم يفعلون، دون أن أحضر تجربة من تجارب الإخراج، بل لقد لبثت ممتنعًا عن مشاهدة تمثيلها حتى آخر ليلة، فذهبت مخدوعًا بقول من قال إنها نجحت، فماذا رأيت؟

رأيت ما توجست منه: أن هذا العمل لا يصلح قط للتمثيل، أو على الأقل لا يصلح للتمثيل على الوجه الذي ألفه أغلب الناس، فهذه الأعمال تحتاج إلى إخراج خاص غير مألوف، لأنها أعمال لم يألفها الناس بعد، ولم يعتادوا على متابعتها بذهنهم قبل متابعتها بحواسهم، وكذلك تحتاج إلى فنيات مسرحية غير اجتهادات الممثلين في أدوارهم، فتحتاج إلى إضاءات مخصوصة، وموسيقى مصاحبة، وأجواء مساعدة تمكن المتلقين من التناغم مع الفكرة والصورة”.

ويعد الاتجاه الذهني في المسرح من أرقى الاتجاهات المسرحية المتنوعة، ولا يتجه الكاتب صوبه إلا عندما يكون متمكنًا من أدوات المسرح وفنياته، وذلك حتى تأتي هذه الذهنية مستترة وراء مقومات المسرح الفنية، وبهذا يضمن لمسرحه النجاح والرواج وإلا كان مسرحه جافًا غير مقبول من المتلقين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لجأ “الحكيم” في هذا التوقيت إلى هذا الاتجاه في أدبه؟

تتضح الإجابة عنه بالرجوع إلى بدايات “الحكيم” الفنية الحقيقية، التي قال عنها: “قد كان مبدأ ظهوري في الجو الأدبي كما هو معلوم نشر “أهل الكهف” عام 1933، ولم تكن هذه الرواية بالطبع بدايتي الأولى في هذا اللون من التأليف، بل كانت ثمرة تجاريب عشرة أعوام أو يزيد سابقة على الشروع في وضعها، فلقد كنت قبل ذلك أكتب للمسرح المصري روايات مما يلائم جمهور تلك الأيام”.

كانت المسرحية قبل هذا الوقت غير داخلة في أجناس الأدب، لأنها قائمة على محض الحوادث المثيرة والحركات المفاجئة، ولم تعرف بعد الحوار القائم على دعائم الفكر والأدب والفلسفة، فرأى “الحكيم” أن الاتجاه إلى عمق الفكرة يضمن له عبور المسرح من بوابة الأدب ليكون جنسًا من أجناسه، وأدرك أن المسرحية إذا عرفت الحوار الأدبي الفكري الصالح للمطالعة، وصُقِلت بلون من الذهنية المقرونة بالجملة الساحر بيانها المحكم رصفها الخفيف ظلها، فلا شك أن ذلك يؤدي إلى تعميق الرؤية وإذكاء الوجدان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعلى هذا يكون الاتجاه الذهني منطلقًا خصبًا لتناول المبادئ والأفكار التي تعبر عن عقل صاحبها وخلد مجتمعه، وفي الوقت ذاته يكون ذلك جواز مرور المسرح إلى عالم الأدب، ولو أن ذلك كان مجازفة منه آنذاك، إذ لم يكن الجمهور وقتها مستعدًا لاستقبال مثل هذا الأدب الذهني، وليس من السهل نقل الجمهور من أدب التسلية والفرجة إلى مثل هذا اللون من الأدب الذهني.

لكن “الحكيم” فطن إلى حقيقة لها أهميتها الكبرى، وهي أن الكاتب الحق هو المسؤول عن توجيه المتلقين وتثقيفهم، لا من يكون مدفوعًا إلى اتجاه لا يتسق مع فكره لمجرد إرضاء المتلقين، فالكاتب الفنان يستوعب الفن والفكر معًا، ثم يحدد المسار المناسب الذي يسير على هديه، ليكون ذلك المسار تشكيلًا لعقل الأمة ووجدانها فيما بعد.

ولا شك أن متابعة الحكيم الدقيقة للوحات الفنية التي كان ينفق وقتًا طويلًا في مشاهدتها إبان إقامته في “باريس” كان لها دور في الاتجاه إلى المنطلق الذهني عنده، وقد وصف هذه المتابعة في إحدى رسائله لصديقه “أندريه” في كتابه “زهرة العمر” بقوله: “إني أخصص يومًا كاملًا للقاعة الواحدة، فأنا لست سائحًا متعجلًا، إني أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم. إن أساس العمل واحد فيهما: الملاحظة والإحساس ثم التعبير”.

لقد عقد “الحكيم” في هذا النص الصلة بين التعبير بالريشة والتعبير بالقلم، وأساس التعبير بالريشة التفكير العميق الذي سيجعل الألوان والصور تنطق بما في نفس الرسام، وكذلك سوف تنطق الكلمات والصور التعبيرية بما في نفس الكاتب، لذلك كان الاتجاه الذهني أهم منطلق عند “الحكيم” للتعبير عما في نفسه.

وكما عقد “الحكيم” الصلة بين أدبه واللوحات التصويرية عقد الصلة بين أدبه الذهني وفن الموسيقى، فيقول في الكتاب ذاته: “الواقع أن الموسيقى الأوروبية بناء فني ذهني شأنها في ذلك شأن القصة التمثيلية”. فقد كانت هذه نظرة “الحكيم” إلى فن المسرح على أنه فن ذهني خالص يتطلب هذا المنطلق حتى يكون ناجحًا مقبولًا عند المتلقين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا ننسى أن من تلك العوامل التي ساقته إلى هذا الاتجاه طبيعته الدقيقة التي وهبه الله إياها واستعداده الذاتي، وحرصه الشديد على خروج عمله في أبهى حلة، وقد حكى عن بداياته الفنية كيف أنه كان يكتب أحيانًا تسع أو عشر ساعات في اليوم بلا انقطاع، وأنه كان ينفق شهورًا في وضع قصة تمثيلية يقرؤها لصديقه مسيو “هاب” في يوم بأكمله بحديقة “اللوكسمبورج”، ويكون مصيرها “الإلقاء” في أول مرحاض عام بشارع “مدسيس”.

هذا الوصف يوضح طبيعة “الحكيم” الحريصة على فنها، المكبرة شأن ما تكتبه، فلا ترضى بغير النبوغ والتفوق له، ويقرر مدى ما كان يراعيه في أعماله، وإن أدى ذلك إلى بذل مزيد من الوقت والجهد، إلا أن هذا العطاء يكفل للعمل البقاء والخلود في ذاكرة الأدب والمجتمع، وهذا الحرص من الكاتب في أدبه غالبًا ما يسلمه إلى الاتجاه الذهني وإن لم يقصد ذلك، فكيف إذا قصد إليه مثل “الحكيم”؟ فلا شك أن تكون فكرته أعمق وأسلوبه أكثر فنية.

بهذا تحقق للحكيم ما أراده من دمج المسرح العربي بالأدب العربي، فاتجه لكتابة المسرحيات الفنية التي يمكن قراءتها على أنها أدب رفيع، وعليه يمكن أن تكون محل دراسة في المعاهد والجامعات، ومن هنا تضافرت كل هذه الأسباب السابقة لتحدد بل لتملي عليه هذا الاتجاه الذهني الذي تبناه وسار فيه، كما يضاف إلى ذلك أن الاتجاه الذهني في أدبه قد نهض بالجانب التنويري الذي عدّه رسالة وجب عليه أداؤها، وبذا استحق أن يكون رائد الاتجاه الذهني في الأدب العربي.

مقالات ذات صلة:

استشراف الجمهورية الجديدة في أدب توفيق الحكيم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل النقد الأدبي معرفة؟

بين الأدب والأديب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة