مقالات

حوار “مصري” بخصوص مشكلاتنا

قال لي إنه عمل مستشارًا لمهاتير محمد الرجل الذي بنى ماليزيا الحديثة فانتبهت. وقال لي إن مخترع التليفون الذكي تلميذه فانتبهت أكثر، وقال أيضًا إنه كتب رسالة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي وأرسلها إليه بالبريد بخصوص سبل إصلاح التعليم فهززت رأسي ممعنًا، ثم قال إنه لا مستقبل لمصر بلا تلميذ عصري، فأمنت على كلامه، فأنا مؤمن بهذا منذ زمن طويل، ثم قال إن شأن مصر يضنيه، فلم أتعجب، فكم من مصري تحقق في الغربة، وبلغ في بلاد الناس شأنًا كبيرًا، لكنه لم ينسَ مصر.

تواصل معي عبر “فيسبوك”، ثم أرسل لي كتابًا بسيطًا –لكنه مهم– أراد منه أن نعرف شيئًا عن إثيوبيا، بعد أن روعه أن كثيرًا من المصريين لا يعرفون ما يلزم عن البلد الذي تأتي منه أكبر مياه للنيل. قرأت الكتاب، وذهبت لمناقشته، لكن الحديث بيننا تطرق إلى أمور شتى.

من هو محمد المصري؟

هو د. محمد المصري، المولود في شبرا عام 1943، وتعود أصوله إلى قويسنا بالمنوفية، تخرج في كلية الهندسة جامعة القاهرة، ومنها حصل على درجة الدكتوراه، ثم سافر إلى كندا ليعمل أستاذًا لمادة الميكروتشيبس (الرقائق الإلكترونية) بجامعة واترلو، ونشر في تخصصه هذا وغيره عشرة كتب، ومئات الأبحاث، وحاضر في جامعات عديد من الدول.

كتاب رحلة إلى إثيوبيا

أهداني د. محمد المصري كتابه عن إثيوبيا، مذيلًا بعدد من المراجع التي عاد إليها وهي باللغة الإنجليزية، ويرى أنه من المهم أن تكون في مصر نخبة متخصصة في هذا البلد القديم، تعرف كل شيء عنه: تركيبته العرقية، وطبيعة تدين شعبه، وجغرافيته وطوبغرافيته، وتاريخه، ومناخه وبيئته، وأحزابه وجماعاته وحركاته السياسية، وميليشياته المسلحة، والقضايا التي تشغل نخبته السياسية، وعلاقاته بجيرانه الأقربين والإقليم والعالم، والتحديات التي تواجهه. وقال لي إنه حضر مؤتمرًا في الولايات المتحدة بشأن إثيوبيا، وأنصت إلى متخصصين في هذه التفاصيل كلها، وكم تمنى لو كان هذا المسح الشامل، قد أنجزته أكاديمية أو مؤسسة بحثية مصرية، حتى يكون لدينا خريطة معرفية عن إثيوبيا.

يعُدّ المصري أن الإلمام بإثيوبيا معرفيًا يساعد كثيرًا في حل المشكلة القائمة معها بخصوص “السد” الذي بنته على النيل الأزرق. وهو في هذا المقام يؤمن بأن “التفاهم” السبيل إلى هذا الحل، وأنه يجعله حلًا ناجعًا ومستمرًا. ويرى أن مصر لا تعدم الوسائل في التعامل مع هذه المشكلة، مهما تعنتت أديس أبابا، وساقت ذرائع تؤجل هذا الحل، أو تعمل على نسفه، وتفرض أمرًا واقعًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التعليم هو الحل

وقد وقفت عند تصوره لحال مصر الآن بإمعان، إذ يرى أن ما حدث في السنوات الأخيرة يشبه بمن أنقذ مريضًا من الموت، بنقله سريعًا إلى “غرفة العناية المركزة” لكنه يصر على إبقائه فيها، مع إعطائه مسكنات تخمد الألم وتقلل العرض، لكنها لا تعالج المرض. ووجدته يقول: “كان لا بد من تقديم العلاج المطلوب، بما يخرج المريض من هذه الغرفة، ويعيده يدب على الأرض متعافيًا”.

عندها سألته، وأنا أجيل النظر في هذه الصورة التي وضعها، عن سبل العلاج، فقال لي: “التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم”، ثم أطلعني على الخطاب الذي أرسله إلى رئيس الجمهورية، وهو يحوي نقاطًا مختصرة، أو رؤوس أقلام لما يراه مشروعًا، يجب النقاش بشأنه، وكتابته تفصيلًا، حتى يكون لدينا تعليم عصري يليق بمصر المستقبل.

يشمل هذا التصور اقتراحًا بخصوص تمويل التعليم، يشرك رجال أعمال وموسرين وأولياء أمور قادرين مع الدولة في هذا الأمر، بما يضمن تعليمًا مجانيًا للتلاميذ والطلاب كلهم. ويركز على مجموعة من القيم الإيجابية التي يجب أن يركز عليها التعليم، وتطوير التعليم الفني، والاهتمام بالأنشطة الثقافية والفنية والرياضية في المدارس، وفتح الباب لإيجاد تكامل في البحث العلمي بين مختلف الجامعات المصرية، وبين علماء مصر وعلماء بالخارج، والاستعانة بعلماء مصريين في الخارج للتدريس في الجامعات المصرية، والإشتراك مع زملائهم في الداخل، لمدة سنة على الأقل، في إجراء أبحاث مشتركة، فيما يخص المشكلات التي تواجه مصر.

عاشق المحروسة

لم أتوقف كثيرًا أمام هذه الاقتراحات، فمثلها، وما يفوقها عمقًا وتفصيلًا، قدمه مصريون على مدار عقود من الزمن، وحوته دراسات أو كتب أو مشاريع، لكنها ظلت حبيسة الأدراج إلى الآن. ولم أتوقف أيضًا عند كتاب “رحلة إلى إثيوبيا”، بخاصة أن د. المصري، كتبه عن بعد، أي لم يذهب إلى هذا البلد بالفعل، وصاغه بلغة تجمع بين الفصحى البسيطة والعامية، ولم أتوقف عند تحقيق ما أورده المصري في نهاية كتابه من سيرة ذاتية له كتبها بنفسه. لكن ما توقفت عنده حقًا، وهو في حد ذاته جدير بالتوقف، ويستحق المصري الشكر عليه، أن هذا الرجل، الذي بات على أبواب الثمانين من عمره، منشغل بمصر رغم تحققه في الغرب، ويعود إليها ليضع إمكانياته في خدمتها، ويصف نفسه بأنه “عاشق المحروسة” وهو العنوان الفرعي لمذكراته التي صدرت بعنوان “مزلقان النجيلي”.

هذه إحدى مزايا المصريين، التي لا تزال تسهم في حمل بلدنا على أكف مخلصة فتمنعها من السقوط. فرغم أن بعض المصريين يرحلون بحثًا عن فرصة لم تتح لهم في بلدهم بسبب الفساد، فإنهم ما إن يتمكنوا في بلاد الناس حتى ينسوا حنقهم، ويمدوا أيديهم إلى بلدهم، سواء بتحويلات فاقت الثلاثين مليار دولار العام الماضي، أو بعرض أفكارهم، أو حتى سواعدهم لتشارك في الدفاع عن هذا البلد العريق. وبالطبع فإن أفكار د. المصري بخصوص تخصصه الدقيق، لا تستغني عنه أي دولة تقصد التقدم في عصر الاقتصاد الرقمي.

اقرأ أيضاً: 

جودة التعليم وآليات تحقيقها

ماذا حدث للمصريين؟

هل أستاذ الجامعة مثقف؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري