مقالات

ماذا حدث للمصريين؟

اعتدت في الآونة الأخيرة أن أتريض يوميا بعد صلاة العشاء لمدة أربعين دقيقة تقريبا، أقطعها ذهابا وإيابا من المسجد الذي أصلي فيه إلى أماكن مختلفة ومواضع متغايرة واتجاهات متباينة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، في محاولة مني لتغيير الوجوه وكسر لحدة الملل، والانفلات من رؤية الشخوص ذاتها في كل مرة.

ماذا حدث؟!

أقابل في تلكم الرحلة القصيرة العشرات بل المئات، خصوصا وأنني أتجول قريبا من مفترق طرق والميدان، وموقف مصر، بوصفه موطنا للغادين والرائحين من المحافظة إلى بقية المحافظات الأخرى، ولا أخفيكم أنني قد أصابني الهم وغشيتني شآبيب الكآبة من كل اتجاه وأنا أرى هذي الوجوه الكالحة،

وأخلاط الناس وقد ران على أشكالهم بؤس لا نهاية له، وغم قد بلغ غايته، حتى جثم على صدري في كل مرة أسير فيها ألم ممض، وشعور قاس، فكاد عقلي يضطرب من هول ما أرى، وفظاعة ما أشاهد، وجعلني أتساءل في حيرة شديدة، ماذا حدث للمصريين؟

هؤلاء المصريون الذين يُعرفون في التاريخ وبين الأمم الأخرى أنهم “أصحاب نكتة”، وأنهم لا يميلون إلى الحزن، ولا تعرف الكآبة إلى أرواحهم سبيلا، رباه ماذا حدث؟! هل ما أراه مجرد تخيل عابر لشخص مرهف الحس، رقيق القلب، يمكن وصفه في بعض الأحيان بالهشاشة العاطفية؟! أم أن ذلك غدا حاضرا بدا في صورة متحققة، يعلن عن نفسه غير متخفٍ ولا وَجِلٍ، يمهر كل جوانب حياتنا بطابع الغم والحزن؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في كل مرة أسير فيها أينما توجهت وحيثما توليت تقع عيني على هذي الوجوه المكفهرة، والأرواح المهترئة، أحاول أن أكذب نفسي، وأن أنفض عنها اليوم غبار ما رأته بالأمس، فلا يزيدني اليوم إلا شؤم ما أبصرته عيني، ووخز ما وقر في قلبي، وسوء ما خالط روحي!

أسير فأنظر في المارة، أتفرس أشكالهم، وأقرأ أفكارهم، فلا أجد ثمة صعوبة في قراءة حيواتهم، ومدارسة واقعهم، إذ إن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء مثقف، ولا روح كاتب، ولا قلب شاعر، بل لا يحتاج إلى كثير فراسة أو عظيم فطنة، إن شأنهم لا يخفى على من له عين تبصر، وقلب يعي، وروح تشعر، فوجوههم تنبئ عن كل شيء، وتشي بحياة ملؤها الشقاء، وواقع قد تخضب باللأواء!

بلسان الحال لا المقال

أنظر فإذا بالحزن وقد ضرب رواقه، وبالهم وقد أقام فسطاطه، وبالآهات وقد حلت، وبالأنات وقد نزلت، وبالدموع وقد تلألأت في العيون، وتحجرت في الأحداق والجفون، يتراءى أحدهم وقد علاه اليأس، وأحاطه البؤس، وكسره العوز، وأذله الاحتياج، وتملكه الفقر، رباه ما هذا؟!

لقد اختفت البسمة، وتلاشت الضحكة، وغاب الفرح، وضاعت السعادة، ولا أكاد أرى إلا أرواحا هزيلة، قد أتعبها الشقاق، وخالطتها المشاكل، ولا أرى إلا أجساما قد أنهكتها الظروف، وأنحلتها الحياة القاسية، أرى وجوها قد شابتها ندوبات، وتوغلت فيها أخاديد الأرق، وقد طغت على التقاسيم، وغدت تسرد مأساة كاملة!

أسائل الوجوه بلسان الحال لا المقال، فتحكي لي عما أقض مضجعها، وقلقل مخدعها، من فقر قد أهانهم، وجدب قد أحاطهم، وكآبة قد لبستهم، ووخز قد سربلهم، وسقم قد وشحهم، وعوز قد طأطأ نفوسهم، وانحنت منه روؤسهم، وضاعت منه هيبتهم،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وتبدلت هيئتهم، وتهرأت أرواحهم، وتكدرت مياههم، وتعكر وردهم، وتغير صدرهم، وضاقت منه حياتهم، وتلاشت منه ذواتهم، وتمرغت منه أناتهم، وصاروا كأن لم يغنوا بالأمس، فخرست ألسنتهم، ولاذوا بالهمس! فإنا لله وإنا إليه راجعون!

أعود قافلا إلى بيتي، وقد أصابني اليأس، وتملكني الإحباط، وأنا أود لو أن لي قدو أو آوي إلى ركن شديد، أو أمتلك خزائن قارون فأوزعها على هؤلاء المعوزين والفقراء والعاجزين والضعفاء والمساكين، أعود وأنا أدقق في هذا الوجه الذي كنت أنظر إليه من وراء حجاب، ثم أرد الطرف حاسرا، لعدم قدرتي على تلبية حاجته، بيد أنني أرى تمتمة روحه، وهو يرفع إلي عينيه،

ويقول لي: “ها أنت تراني، لكن تخشى أن تبصرني، لعن الديان نفاقك”، فأبكي، وأبكي، وأجهش بالبكاء، أتمزق من داخلي من شدة العجز، وأنا لا أرى إلا ذلكم النفق المظلم، والمتاهة اليهماء، بل أكاد أوقن ألا سبيل إلى النجاة في هذي الحياة، لولا أنني أتخايل بابتسامة طفل من كوة اليأس ونافذة الحرمان، وهو يشير إلي مبتسما من بعيد، فتسكن روحي، وتهدأ نفسي قليلا، قليلا!

اقرأ أيضاً:

عزيزي السائق المصري

قمحاوي

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مصر التي في خاطري

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب

مقالات ذات صلة