ما قبل العقل وما بعده
الإدراك عندنا أهل الفلسفة نوعان؛ إدراك حسي وإدراك عقلي، أما الأول فالمقصود به الإدراك الذي يتم بواسطة الحواس الخمس، وقديما قال أفلاطون إننا لا ندرك بالحواس وإنما من خلال الحواس ، محاولا التقليل من دور الحواس في المعرفة الإنسانية.
وجاء بعده أرسطو ليؤكد على الدور المهم والرئيس الذي تقوم به الحواس الخمس في تقديم المعطيات الحسية، مرئية كانت أو مسموعة إلخ، كمادة خام تتفاعل معها قدرات العقل الإدراكية فتحولها إلى أفكار وتصورات تبدأ بها المعرفة الحقيقية المميزة للإنسان.
ومن هنا كان قول أرسطو أيضا بأن العقل يدرك الصور المعقولة بينما يتوقف الحس عند نقل الصور المحسوسة، ولنلاحظ هنا أن المشترك بين القوى الإدراكية للإنسان هو إدراك الصورة، وصورة الشيء عند أرسطو تعني ماهيته وجوهره.
أنواع الإدراك
وقد نجح أرسطو في إطار نظريته المعرفية أيضا في التمييز -كما قلنا- بين العقل الاستدلالي؛ الذي يكتفي بإقامة استدلالاته، استقرائية كانت أو استنباطية، من خلال تنظيم المعلومات التي استقاها من مصادرها الحسية والعقلية في صورة نسقية،
إما أن تبدأ من الجزئيات إلى التعميم على الكل فتكون استدلالا استقرائيا، أو تبدأ من الكل لتنتهي إلى نتيجة جزئية فتكون استدلالا استنباطيا يقينيا، هو مثال العلم الاستدلالي عنده لأن به تمام اليقين، وبين العقل الحدسي؛ الذي يدرك المبادئ الأولى للأشياء وللوجود وعلى رأسها بالطبع إدراكه لعلة العلل وصورة الصور: الإله المفارق والمحرك الذي لا يتحرك.
وفي الحقيقة أنه لم تخرج نظريات المعرفة لدى الفلاسفة بعد أرسطو وحتى الآن عن التأكيد على هذين النوعين الأساسيين من الإدراك، كل ما هنالك أن بعضهم يميل إلى الثقة بيقين المعرفة الحسية أكثر من المعرفة العقلية، وبعضهم الآخر يرى العكس، وكل فريق له مبرراته وحججه، فالحسيون أميل إلى المعرفة العلمية الاستقرائية والدفاع عنها، والآخرون أميل إلى المعرفة الرياضية والفلسفية النظرية والدفاع عنها.
ولم يشذ عن هؤلاء وأولئك إلا أصحاب الرؤى الدينية الصوفية الذين يرون أن الحق والحقيقة لا يملكهما إلا الله، ولا بد للمؤمن أن يخلص في إيمانه وعبادته حتى تنكشف له الحقيقة من الله ذاته. وهذا ما يسمى بالكشف الصوفي، أو إن شئت سمه الحدس الصوفي. المهم أن هذا النوع الثالث من الإدراك هو إلهام إلهي ينزل على العبد المؤمن من ارتباطه بعالمه العلوي الإلهي، حيث تنكشف أمامه الحقيقة بشكل يزول معه أي ريب على حد تعبير الإمام أبو حامد الغزالي.
مصطلحات جديدة
ولا شك أن هذه الرؤى الصوفية الحدسية تمثل درجة ما بعد العقل الاستدلالي أو الحدسي. فما بالنا اليوم بمبدع مصري يدعى سعدني السلاموني يدعونا إلى ما يطلق عليه محو الأمية البصرية ويُعرف لنا العلوم بأنها ثلاثة لا رابع لها
«1-العلم منتج بصري يأتي من عين الوجه وعين العقل، فبصر العقل وخياله دائما ما يأتي من بصر العين 2-علم العلم منتج البصيرة يأتي من رحم عين الروح 3- علم العلوم منتج بصيرة البصيرة يأتي من رحم عين القلب»، فهل ذلك النص السابق يختلف عن ما قلناه في التمييز بين رؤى العلماء والفلاسفة لنوعي الإدراك (الحسي والعقلي) باعتبار 1 من النص السابق، وبين رؤى الصوفية باعتبار 2 و3 منه؟!
إني لا أرى اختلافا إلا في استخدام مبدعنا لاصطلاحات جديدة من رحم تأملاته الفطرية ورؤاه الكشفية. وإذا لم يكن الأمر كذلك فهل يريد أن يعود بنا سعدني السلاموني إلى عصر ما قبل اللغة الطبيعية والرمزية؟ إلى عصر اللغة المصرية القديمة المعروفة بالهيروغليفية وقد كانت في بدايتها لغة الصورة المنحوتة أم ماذا؟!
وهل هذه الدعوة إلى اللغة البصرية الجديدة ومحو أميتنا إزاءها جديرة بتأسيس مدارس ومعاهد وأكاديميات للانتقال إلى عصر تعليمي جديد يمكن أن ندعوه «عصر ما بعد العقل وعصر ما قبل العقل» في آن واحد؟!
هل غلبنا هنا الهوى أم التبست علينا الطرق؟!
عموما فأنا مؤمن بمقولتي قطب العارفين وترجمان الواصلين الصوفي الكبير ابن عطاء الله السكندري: «ما نفع قلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة»، و«لا يُخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك، وإنما يُخاف عليك من غلبة الهوى». والسؤال هل غلبنا هنا الهوى أم التبست علينا الطرق؟! لعل الأمر يقتضي منا أن نعود إلى العزلة لنعاود الدخول إلى ميدان الفكرة مرة أخرى لعلنا نهتدي إلى الصواب.
“منقول بإذن من كاتبه”
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.