لا تشرق شمس حضارة إلا بالأخلاق – الأخلاق بين القيمة والقانون
” الإنسان متمرد بطبعه “
جملة كثير ما يشيع صيتها أو يكثر المؤمنون بها ولكن ما معناها في الحقيقة؟! كيف يكون الإنسان كائن متمرد؟ وفى الحقيقة أن للمقولة جانب من الصواب ولكن لنحكم على الإنسان لابد أن نعى ما الذاتي والأساسي فيه وسنجد أنه كائن عاقل حر الإرادة وهنا على حد توجه الإرادة يكون الحكم؛ إما تمردًا أو اتباع ولكن لأى شيء يتبع أو يتمرد عليه؟! سنجد استخدام تلك المقولة ” الإنسان متمرد بطبعه ” تذكر في أحداث كخطأ مجرم أو خطأ ابن أو تبرير أحد المشاهير شيء ما كان يفعله سابقًا.على أن الإنسان طبيعته أن يخطأ أو من الطبيعي أن يتمرد على القانون أو الأوامر
ويظهر ذلك مثلاً في مثالنا هذا؛ أب يحذر ابنه بأن لا يقم باللعب في أدوات مكتبه، ويخرج الأب ويعود بعد فترة فيجده قد خالف كلامه وقام باللعب في أدوات مكتبه، يغضب الأب ويقوم بعقابه ويحذره بأنه إن لم يطِع أمره سيقوم بمعاقبته بعقاب أشد قسوة من الذى قد عوقب به، ويأتي للأب ظرف تابع لعمله بأنه سيقوم بالتواجد في أحد فروع الشركة التي يعمل بها لمدة أسبوع فقبل أن يذهب.
يعاود تذكير ابنه وتحذيره بأن يقوم بواجباته وأن لا يفعل الأمور التي قد نهاه عن فعلها ويقوم بالأمور التي أمره أن يفعلها وما يلبث الابن حتى يغادر أبوه فيقوم بالتصرف كيفما يشاء غير عابئ بما أمره به والده وكما قيل في الأمثال الشعبية ” إن غاب القط؛ العب يا فار ”
وعلى صعيد آخر؛ نجد زيادة ملحوظة للجرائم والأفعال غير الأخلاقية في المجتمعات في الأماكن التي تضعف فيها يد الأمن وكذلك نفس الأشخاص الذين يتواجدون في أماكن فيها قوة أمنية عالية حين يغادرون تلك الأماكن قد يتصرفون بشكل غير الذى كانوا عليه فيصبحون غير منضبطين، كما كانوا في الأماكن التي تردعهم عن طريق القانون .
الأخلاق بين القيمة والقانون:
الأخلاقيات نتاج طابع الشخصيات، والشخصيات تكونت طبائعها نتيجة تطبع والتطبع هو تعويد النفس على فعل سلوك معين سواء كان صحيح أو خطأ. والسلوك نتيجة للتفكير والتفكير إما أن يكون سليمًا أو مغلوطًا والتفكير يشكل للمرء اعتقاده للواقع وهو ما يدفع المرء علي فعل ما يوافق اعتقاده؛ فإن كان يظن في السرقة والكذب منفعة؛ سعي في ذلك
وهنا يتبين لنا أن الأخلاق تشكلت وفق عاملين أساسيين هما:
الأول هو التفكير السليم الذي أقر وأثبت بحسن الأمور الحسنة وقبح الأمور القبيحة والثاني وهو الطبع الذي تكون نتيجة التطبيع والذي يشارك فيه الكثير من العوامل فلا ينفرد به الفرد وحده بل يؤثر في ذلك محيطه انطلاقاً من الآباء والمدرسة والمجتمع إلي وسائل الإعلام والاتصال والفن وغيرهم فلذلك قد يخرج من هو يتنمر علي غيره أو يسرق أو يكذب وغيرها وذلك نتيجة تطبعه بذلك وهنا إن زادت الحالات التي تقوم بذلك ينذر بأن هناك قصور تربوي وغياب لدور العوامل المؤثرة في ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية في أبناء ذلك المجتمع.
فوجود الرادع القانوني وحده غير كافي لضبط التعاملات بين أفراد المجتمع وتحقيق العدالة فيه، بل هنا يشبه الأمر بتحكيم القبضة علي حيوانات مفترسة حين تغيب القوة المسيطرة عليها تعود لطبيعتها فتفترس وتتعامل وفق طباعها ، ولأننا بشر فردعنا قانونيًا لا يليق بنا بقدر ما يليق بنا الردع الأخلاقي والقيم التي ما إن تم الإخلال بها يتم انتقاص إنسانيتنا.
أوجه غياب الأخلاق في المجتمع:
إن القيم الإنسانية إن كانت المحرك الرئيسي لإنسان ما في المجتمع كان حريصًا على أن يتعامل وفقها، وأن يحقق العدل والرحمة والإحسان لكل ما يتواجد حوله ، فقد نجد أحيانًا أطباء ساقتهم النزعة الإنسانية علي التفوق في مجالاتهم لإنقاذ الأرواح وتخفيف الآلام وعلي النقيض قد نجد آخرين قد حركتهم المنفعة فبحثوا وتطوروا كي يتمكنوا من إنتاج وتسويق المنتجات والعقاقير لكي يحظوا بالربح غير عابئين بقيم العدل أو الواجبات الأخلاقية والإنسانية عليهم أو حتي بمعاناة الناس.
وكذلك نجد علماء يجتهدون في تطوير الأسلحة والقنابل لكي تعود علي شركاتهم بالنفع الكبير دون أن يعيروا القيم الإنسانية والأخلاقية أي انتباه ولا لمن سيُدمر بها أو يفتك ويفسد من خلالها، وعلي النقيض نجد من يسعون في تطوير الأدوات المساعدة لمن يفتقد أحد أطرافه أو لا يقوي علي السير.
وهنا يبدو واضحًا الفرق بين غياب الأخلاق عن الأفراد والمجتمع وبين وجودها. ومن الأجدر أن لا يُوصف أي مجتمع مهما تطور في العلم والمعرفة وفي مختلف المجالات بكونه مجتمعا متحضرًا إلا بوجوب ارتقاء لكثير من مؤسساته أخلاقيًا مما يعكس ذلك علي أبنائه بمؤشرات إنسانية وأخلاقية رفيعة.
وكذلك فلن يفي وحده القانون بالغرض في تحقيق العدل فحتمًا هو لا يسوق قطيعًا من الحيوانات إلى فعل ما يجب فعله بل يجب قبل أن يردعهم القانون أن يعلموا ما هو الصواب وما هو الخطأ وأن تكون هناك جهود كبيرة للتربية الأخلاقية من مختلف المؤسسات التي تساهم بشكل فعال في تشكيل وعى أبناء المجتمع، فتتكون لديهم أخلاقيات سليمة إلى حد كبير، ومن ثم يأتي دور القانون ليضع الحدود التي لا يجب أن يخرج عنها الناس حتى يتطور المجتمع ويتقدم بدلاً من أن يفسد ويتدمَّر.
وللإمام “محمد عبده” قول في ذلك حيث يقول
” من رُبّي على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحا بغير فقه، فهو غير مؤمن. فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم فيعمل الخير؛ لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.”