العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء السابع
خامسًا: تصور القانون وتطبيق القانون
النقطة الثانية التي نعزو إليها تفرقة البعض بين القانون السببي والقانون الإحصائي، تتمثل في الخلط بين القانون كونه تعميمًا عقليًا استنتاجيًا، وبين استخدام هذا القانون في النواحي العملية. ولنسترجع معًا مثال الرصاصة أو النقطة الكتلية التي أُطلقت نحو هدف معين.
لا شك أن حركة هذه الرصاصة تخضع عقليًا لقوانين الميكانيكا النيوتونية، التي تمنحنا معرفة يقينية تامة بموضع الإصابة إذا عرفنا الشروط الابتدائية للحركة. لكن دعنا نحاول إجراء هذه التجربة، هنا سوف ندرك الصعوبات الفنية التي تقترن بإطلاق كتلة ما على هذا النحو تمامًا. لأننا مهما قمنا بتكرار التجربة تحت الظروف العملية ذاتها، بمعنى أننا نتخذ في كل مرة ذات النوع من الترتيبات الفنية لكي نوفر الظروف المطلوبة، إلا أن نقطة الاصطدام لن تكون هي ذاتها في كل حالة، وإنما نحصل فقط على نموذج من النقاط المتراصة حول مركز معين. وهكذا فإذا وصفنا الشروط الابتدائية (أي السبب) بدلالة عمليات فنية ملائمة، فلن يمكننا التنبؤ تمامًا بنقطة الاصطدام، لكن يمكننا التنبؤ فقط بنموذج للاصطدامات أو “التشتت”، ما يعني أننا أمام قانون إحصائي تفرضه العوامل الخارجية للتجربة، بالإضافة إلى عدم كفاءة الأجهزة التي نرسي بها الموضوع والاتجاه.
نستنتج من ذلك أنه لكي يكون القانون السببي ذا طابع حتمي مطلق لا بد وأن يتوافر له شرطان: شرطٌ رياضي، وآخر تجريبي، وطبقًا للشرط الأول يختفي التشتت في النتيجة إذا اختفى التشتت في الظروف الابتدائية، وطبقًا للشرط الثاني يمكننا التخلص من التشتت في الظروف الابتدائية بتوافر أجهزة فيزيائية ملائمة، وتطابق العوامل الخارجية المؤثرة. وإذ إننا لم نصل بالشرط الثاني إلى مرحلة التحقق التام، فمن الطبيعي أن تتراجع الحتمية التامة معرفيًا، لكن دون أن يُخِل ذلك بالحتمية الأنطولوجية التي تعمل بمقتضاها ظواهر الطبيعة.
يمكننا إذًا القول بأن جميع قوانين الطبيعة –على مستوى العقل– في جوهرها قوانين سببية حتمية، بما في ذلك القوانين الإحصائية، ما دام مجموع الاحتمالات في الرياضيات مساويًا للواحد الصحيح، وأن جميع القوانين على مستوى التجربة في جوهرها قوانين سببية إحصائية تتراجع حتميتها بتراجع كفاءة أجهزة القياس. ولا يُخل ذلك كما ذكرنا بالطابع الحتمي لقوانين الطبيعة، بقدر ما يؤكد الطابع التقريبي لمعرفتنا. فكل قياس في العلم يُعطَى دائمًا مع خطأ محتمل، والاعتراف بهذا الخطأ هو المنفذ الذي يجري منه نمو المعرفة وتطورها.
خلاصة القول: هناك ازدواج بين العقل وبين ما يريد أن يجعله معقولًا، وليست القوانين السببية بما تنطوي عليه من ضرورة سوى وسيلة عقلية لتنظيم الظواهر المرئية، وعلينا أن نحذر من زعزعتها لأننا لا نستطيع تجاوزها!
سادسًا: إشكالية الاتصال السببي
كان اتصال التسبيب حتى أواخر القرن التاسع عشر أمرًا مسلمًا به لدى كافة علماء الفيزياء، ليس أنه شرط أنطولوجي فقط، لكن أيضًا شرط إبستمولوجي يفرضه استخدام حساب التفاضل والتكامل في وصف عمليات الطبيعة، فلقد نظر “نيوتن” إلى العلاقة السببية كونها دالةٍ متصلة تخلو تمامًا من الفجوات. وعلى المنوال ذاته نسج “ماكسويل” حين استكمل النسق الرياضي لنظرية “فاراداي” في المجال، مستبعـدًا بذلك إمكانيـة التأثير عن بُعد. وهكذا ساد بين العلماء تصور يقضي بأن السبب يـؤدي إلى نتيجته عبر سلسلة من المتوسطات السببية اللا متناهية العدد، وأن الأسباب الصغيرة لها نتائج صغيرة (Small cause have small effects)، بمعنى أن أي تغيير تدريجي في السبب لا بد أن يؤدي إلى نتيجة متغيرة تدريجيًا.
على أن هذا التعميم لم يخل دائمًا من الاستثناءات، بل لقد كانت الطبيعة تكشف من حين إلى آخر عن طفرات كمية أو كيفية في عملياتها، تمثل فجوة في السلسلة السببية. من أمثلة الطفرات الكمية ما يعرف بحالة اللا استقرار (Instability)، فمن المعروف فيزيائيًا أن الجسم يكون في حالة استقرار ديناميكي أو استاتيكي إذا ما استوفى شروط الاتزان (Equilibrium)، أي عندما تتوازن جميع القوى أو العوامل المؤثرة عليه، إذ إن أي إحراف عن موضع الاتزان، يواجه بقوة تحاول إعادة الجسم مرة أخرى إلى هذا الوضع، ومن ثم نقول إن الأسباب الصغيرة لها نتائج صغيرة.
أما حالة اللا استقرار أو الاتزان اللا مستقر فليست كذلك، لأن أي انحراف صغير عن وضع الاتزان قد يفضي بالنظام إلى حالة مختلفة تمامًا، وعلى نحو أكثر دقة إلى مدى بأسره من الحالات التي لا يمكن أن تكون متصلة سببيًا بالانحراف عن الحالة الأولى فقط، وهو ما نعبر عنه بقولنا أن هناك قفزة سببية تحول دون التنبؤ بالنتيجة انطلاقًا من الشروط الابتدائية بمفردها، ومن ثم فالأسباب الصغيرة قد تكون لها نتائج كبيرة.
أما الطفرات الكيفية فمن أمثلتها ما يعرف بالانتقال الطوري للمادة، أعني تحول المادة من طور إلى آخر من أطوارها الثلاثة: الغازية والسائلة والصلبة، وهو التحول الذي يتسم بطابعه الفجائي أو القفزي، فمثلًا عند تسخين الثلج تتغير حالته الحرارية تدريجيًا حتى تصل إلى ما يسمى نقطة الانتقال (Transition point) –وهي في مثالنا درجة الصفر الحراري– إذ يبدأ الثلج فجأة في التحول إلى ماء سائل له خواص فيزيائية مختلفة عن خواص الثلج.
رغم أهمية هذه الاستثناءات، فإنها لم تكن لتنال من مبدأ الاتصال، بل كانت تؤخذ عادة كونها عمليات ظاهرية تنطوي على اتصال سببي مستتر، وبعبارة أخرى، إذا كانت القفزات الكمية أو الكيفية تخل ظاهريًا بتفردية (Uniqueness) الرباط السببي أو خطيته (Linearity) التي يستلزمها اتصال الحوادث، إلا أننا نستطيع النظر إليها أنها ملتقى لمتسلسلات سببية مختلفة تستدعي تدخل القانون الإحصائي. وقد رأينا أن القانون الإحصائي ما هو إلا شكل تجريبي للقانون السببي، يُعبر عن قصور معرفتنا وأقيستنا إزاء تعقد الروابط الموضوعية بين الحوادث، وهو ما حدا بـ”راسل” إلى المصادرة على اتصال البنية الزمكانية لحوادث الطبيعة.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا