المدنُ المسحورةُ .. وهمٌ جغرافي وتاريخٌ أسطوري – الجزء الرابع
الوظائف النفسية للمدن المسحورة
تتعدد أشكال التعبير الشعبي وتتنوع ما بين “الأسطورة والمثل الشعبي واللغز والنكتة الشعبية”، حسب ما تورده الدكتورة نبيلة إبراهيم في كتابها “أشكال التعبير في الأدب الشعبي”، لكن يظلُّ الحكيُ والقَصُّ من أهم تلك الأشكال، وذلك لأسباب عديدة يُوردها الدكتور فارس خضر في الفصل الرابع من كتابه، منها: ترسيخ المعتقدات الشعبية وتأكيدها عن طريق عناصر الإقناع والتشويق، وتحقيق الرغبة الدفينة لدى الجماعة الشعبية في امتلاك العالم عن طريق الحكي وإعادة تشكيله كما تحلم به وتصبو إليه.
أولًا: سمات النص الشفاهي والمدون
الحبكة القصصية
يرى الباحث أنَّ الحبكةَ القصصية في نصوص المدن المسحورة حبكةٌ ناقصة رغم كونها مُحكمة، إذ إنها تسير خطيًا نحو الذروة لتصل إلى نقطة الإثارة، غير أن بنية النصوص المدونة تقف عند حدود هذه الذروة دون أن تكمل دورتها، فلا حلّ ولا انفراجة بل نهاية مفتوحة تترك أسئلة هذه المدينة المسحورة معلقة في عقل المتلقي، وذلك لأن الحل يُغلق الدائرة القصصية ويكون محصلة منطقية للحوادث والوقائع المسرودة، وهذه الحبكة الناقصة لها أهدافها، فهي لا تأتي اعتباطًا، ومخالفتها للحبكة القصصية المعتادة له مغزى يتمثل في إشاعة الغموض، واستثارة المخيلة الشعبية لتعيد إنتاجها مرات ومرات في أشكال قصصية مختلفة.
الأسلوب الصيغي
تخلو النصوص المدونة للمدن المسحورة من الأسلوب الصيغي، وهي أساليب سابقة التجهيز يحفظها الراوي، وتقوم بوظيفة العوامل المساعدة على التذكر، وذلك بحكم طبيعتها الكتابية، ورغم ذلك فإنها تشترك مع النصوص الشفاهية في تركيزها على الحدث الحكائي دون اعتناء بالجماليات اللغوية، وذلك مرجعه أنَّ النصوص المدونة تنتمي إلى المأثور الشعبي، لأنها في الأصل نصوص “مملاة” لا تنتمي للكتابية انتماءً كاملًا، في حين أن النصوص الشفاهية بهذه الأساليب الصيغية المقولبة التي يحفظها الراوي، وتساعد على عملية التذكر، كما أنها تربط بين الراوي والمتلقين بوشائج، فإذا كرر جملة “اللي يحب النبي المختار، يجيب حطب للنار”، يدرك المستمعون قرب نهاية الحكاية.
بؤرة الصراع ونمذجة الشخصيات
نصوص المدن المسحورة تتوجه فيها طبيعة السرد نحو التركيز على الفعل القصصي من حيث هو صراع خارجي بأكثر مما تتوجه نحو التركيز على الصراع الداخلي للشخصيات، فالباحث يرى أنَّ هذه النصوص الكتابية تقدم شخصيات منمذجة مسطحة نمطية سكونية لا يتعرف المتلقي على صراعاتها الداخلية أو أجوائها النفسية، وهذا ما يفسر لجوء الراوي عن طريق الحكي الشفاهي إلى قوانين الإدهاش والتعجيب، لينتزع ذلك المتلقي الملول من ملله، ويدفع به دائمًا أن يسأل عما يحدث، وهذا سؤالٌ يظل مفتوحًا لكي يتولى خيال المتلقي إكماله.
وهذا يفسره الباحث بأن الكلمات المنطوقة لها طبيعة درامية لا توفرها الكلمات المكتوبة التي يعتمد فيها النص على البنية اللغوية أكثر من اعتماده على الفعل القصصي.
ثانيًا: المخيلة الشعبية وإبداع المدن الحُلمية
بالنظر في نصوص المدن المسحورة، يتأكد أن المعتقدات الشعبية التي كونتها اعتمدت اعتمادًا رئيسًا على قوة الموروث الديني القديم الكامن والمتجذر في العقلية الشعبية، فضلًا عن الخيال الذي يقف على قدم المساواة مع ذلك الموروث، ومن ذلك يتضح أنَّ بلورة الملامح العامة لمعتقدات المدن المسحورة لا يمكن أن يكون نتاجًا لعملية التخيل وحدها، كما لا يمكن أن يكون منبت الصلة بالموروث.
ثالثًا: الوظائف النفسية للمدن المسحورة
يمكن أن نوجز الوظائف النفسية للمدن المسحورة كما عرضها الباحث في نهاية الفصل كما يلي:
- وظيفة الإشباع للحاجات الاجتماعية والنفسية للجماعة الشعبية، وهذا الإشباع لا يكون حقيقيًا وإنما يكون متوهمًا بحيث يمنح الفرد قدرًا من الارتياح المؤقت.
- وظيفة الهروب من وطأة الواقع والمجتمع، وللهروب أسباب: تعرض البطل لظلم اجتماعي كما هو موجود في الحكايات الشعبية، ثم تعرضه للتيه بحيث يصعب عليه العودة إلى موطنه، ومن ثم ينخرط في مدينته المسحورة بوصفها نوعًا من الهروب من الواقع المعيش.
- وظيفة التعويض، ويمكن تعريف التعويض “بأنه ميل الفرد الذي يشعر بنقص ما إلى التعويض عن ذلك بمساواة غيره أو بالتفوق عليه”، ويكون نتيجة لتطلع الفرد من الخروج من طبقته الاجتماعية إلى طبقة أعلى، ويكون التعويض عن طريق خلق مخيلته لهذه المدن المتوهمة تعبيرًا عن عدم ارتياحه لواقعه.
وتُعدُّ المعتقدات الشعبية حول المدن المسحورة أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى أحلام النوم.
في النهاية فقد قامت هذه الدراسة برصد وتحليل معتقدات المدن المسحورة في واحة الداخلة ساعيةً للكشف عن البنية المنطقية وراء وجودها وعن وظائفها وأسباب استمراريتها، وأيضًا الكشف عن الضروريات المنطقية والجمالية التي تجعل هذه المعتقدات حية تتوارثها الأجيال المتعاقبة.
وقد تميزت الدراسة بعمق البحث وجودة التحليل، بالإضافة إلى متعة الأسلوب الذي كتب به الباحث دراسته، ولم تحدُّه أدوات البحث وتقنياته عن اجتراح عوالم الشعرية في بحثه، فجاءت عباراته مزيجًا بين النثر والشعر، وهذا عائد إلى كون المؤلف شاعرًا في الأصل.
نتائج الدراسة
وقد انتهى الباحث إلى نتائج عدة أهمها:
- تُعد معتقدات المدن المسحورة تراثًا إنسانيًا مشتركًا ذائعًا لدى غالبية المجتمعات الصحراوية التي سكنت في قرى واحة الداخلة.
- المعتقدات التي تدور حول المدن المسحورة هي محاكاة لصورة الجنة السماوية، فالعقلية الشعبية تجري توحدًا بين الجنتين الأرضية والسماوية، على حين تقف هذه المدن في منزلة بين منزلتين، المقدس/السماوي والمدنس/الدنيوي.
- نصوص المدن المسحورة تضع قدمًا في جغرافيا الوهم وأخرى في التاريخ الميثولوجي، رغم أن هذا الوهم ليس مطلقًا، لأنه ناتج عن خبرات الإنسان وتجاربه القديمة، وهو أحد نتائج العراك التاريخي في مواجهة قسوة الطبيعة ومقاومة الفناء.
- الذاكرة الجمعية للإنسان لا تحفل بالأحداث العادية وإنما يكون جُلُّ اهتمامها بالحدث فوق الواقعي (الميثولوجي) وأيضًا تؤسطر الأشخاص التاريخيين.
- تقترب المدينة المسحورة كما صنعتها المخيلة الشعبية للواقع المعيش، فهي تعبر عن لهفة الإنسان واشتياقه للوصول إلى جنته الأرضية التي تعوِّضه عن سنوات الحرمان والفقر والعوز.
- تُصحِّح العقلية الشعبية الأخطاء التراجيدية التي حدثت في الماضي، إذ إنها تعيد إنتاج الموروث الميثولوجي، ففي معتقدات المدن المسحورة نجد أن الأفعى التي أخرجت آدم وزوجه من الجنة السماوية –كما في الموروث الديني الشعبي– تقف حارسة على بوابة الدخول إلى الجنة الأرضية.
- حين ترسم العقلية الشعبية عناصر المدن المسحورة لا تميل إلى المبالغة والإغراق في عدم التصديق، فهذه المدن تتمتع بوفرة الآبار المتدفقة الفياضة في حين تخلو من الأنهار، وهذا يتسق مع البيئة الصحراوية البعيدة عن نهر النيل.
- توجه العقلية للسلطتين السياسية والدينية انتقادات حادة تصل إلى حد تحقير رموزهما، في حين تُعلي من شأن أصحاب المعرفة البدهية وأيضًا المعرفة ذات البعد الصوفي.
- إن بطون القبائل العربية تعاملت مع الواحة بمنطق الإغارة والنهب وليس من منطلق السُكنى فيها وتعميرها.
- ثمة بعدٌ صوفيٌ يكمن وراء الجزاء الذي يتلقاه الذي يعثر على المدينة المسحورة، فهي منذورة للأتقياء الأنقياء جزاءً لهم على أفعالهم في الدنيا، أما الأشرار فمحرومون من هذه الجنة الأرضية.
- تلبي معتقدات المدن المسحورة ميلًا لدى الجماعة الشعبية نحو امتلاك العالم عن طريق الحكي، وإعادة تشكيله كما تحلم به وتصبو إليه.
- تنتمي نصوص المدن المسحورة إلى القصة ذات الحبكة القصصية الناقصة، فالخط السردي يسير خطيًا نحو الذروة لتصل إلى نقطة الإثارة (الضياع في الصحراء ثم الوقوف على أسوار المدينة المسحورة) ومحاولة الدخول، بما يُعدُّ وصولًا إلى ذروة الحركة الصاعدة، غير أنَّ بنية النصوص المدونة تقف عند حد هذه الذروة دون أن تُكمل دورة الحبكة، فلا دخول ولا حل ولا انفراجة، بل نهاية مفتوحة، وهذه النهاية المفتوحة تُثير المخيلة الشعبية لتعيد إنتاجها مرات ومرات في أشكال مختلفة.
- دراسة هذه المعتقدات تقف حائطَ صدٍ ضدَّ توظيفها في عمليات التجسس، مثل ما قام به المستكشف لاديسلوس ألماشي في توظيف المعتقدات الموروثة لصالح أغراضه التجسسية.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا