ظاهرة اللا مبالاة وانتشار الأنا مالية
“اللا مبالاة والأنا مالية” موقفان يفرزان لإسقاط الواقع من الحسبان، ربما لعدم الاكتراث به، وربما لأن واقعا كهذا يبادلنا عبثا مقابل إهمالنا، وهذا لا يعني موت الواقع أمام العالم الافتراضي كما يذهب مفكرو الذكاء الاصطناعي artificial intelligence ، لكننا نعلم وزنه النوعي إذ ليس لنا فيه تأثير، ليتم الرد السلبي على المستوى ذاته،
كما أنه -أي الواقع- عصي على أية تحولات إنسانية كرهان في المجتمعات الحية، فالمعروف أن كائنا متفاعلا مع محيطه هو الإنسان، وإذا وجد محيطا أعمى لا يرى مصيره سيصرف النظر عنه،
“الأنا مالية” موقف ذو توجه وليس صفرا أنطولوجيا، إن الموجود هناك (الإنسان) بتعبير هيدجر قرر مواصلة النأي بنفسه، فالواقع لا يعيره اهتماما، إذن فليكن الواقع أيضا مُلقىً هنالك، حيث يتعادل مع اللا شيء رغم أنه يشغلنا بمجمل الرؤى والتصورات.
ولقد دعا عدد من العلماء إلى تعزيز الإيجابية والمشاركة الجماعية بين أفراد المجتمع ونبذ السلبية واللا مبالاة، مشيرين إلى أن لذلك دورا مهما في أمان الأفراد وحراسة القيم ومقاومة الرذائل بشتى صورها.
وأوضح العلماء أن «الوقوف على الحياد» و«الأنا مالية» ثقافة خاطئة تحتاج إلى تصحيح ومراجعة، لأنها تتنافى مع الرسالة التي اختصت بها أمة الإسلام لتحقيق خيريتها.
واعتبروا التنشئة الاجتماعية الخاطئة هي الأساس في تغليب السلبية على الإيجابية، داعين المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية إلى تضافر جهودها لإعادة هذا السلوك الإيجابي المهم.
الإيجابية التي يريدها الإسلام
ولقد أوضح الدكتور نبيل السمالوطي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر أن الله عز وجل خلق الإنسان اجتماعيا بطبعه، بمعنى أنه يعيش في وسط جماعة مدنية أو مجتمع لتصل إلى دولة، فالدين يحثنا على أن نكون إيجابيين متفاعلين مع غيرنا نافعين المجتمع الذي نعيش فيه.
ويضيف أن أخلاق المصريين وعاداتهم القديمة كانت انعكاسا قويا لهذه الإيجابية، ففي الماضي كنا نرى الشهامة والرجولة، والمقصود بها أفكار إيجابية نافعة للآخرين وللغير، وهي لا تقتصر على الرجال فقط بل تمتد للرجال والنساء، أي القدرة على حماية الآخرين ورد المظالم والدفاع عن المظلومين بكل الأشكال،
وكنا قلما نجد شخصا يتعرض لفتاة لأن الجميع يعتبرونها أختهم، وهذا افتقدناه الآن في شوارعنا، فكثيرا ما نرى لصا يسرق حقيبة امرأة ولا أحد يلتفت إليه، أو شابا (يعاكس) فتاة ولا أحد يزجره، وشعار هؤلاء «أنا مالي!».
ويتابع: “قديما كان أبناء المنطقة والحي والبلدة الواحدة معظمهم يعرفون بعضهم بعضا، ويتبادلون الزيارات والتواصل، أما الآن فأصبح الجار لا يعلم شيئا عن جاره الملاصق له، بل قد تجد الجار الآن في العمارة الواحدة لا يعرف اسم جاره بالشقة الملاصقة أو المجاورة له، رغم أن “سنتيمترات” فقط تفصل بينهما!”.
ويستطرد: “كثيرا ما نسمع عن حوادث تتم بشقق الجيران لا نعلم عنها شيئا، لأنني لا أستطيع أن أميز من بداخل شقة جاري، هل هو صاحبها أم لص يحاول سرقتها؟ وكم من أشخاص يعيشون بمفردهم نفاجأ باكتشاف وفاتهم بعد تحلل جثثهم بأيام طوال، وما ذلك إلا للميل للعزلة والتباعد الاجتماعي بين أبناء المجتمع وإن جمعهم مكان واحد، فأين حق الجار؟ أين حق الصديق؟ أين حق الأهل؟ كلها حقوق أهملناها!”.
ويواصل: “الإيجابية التي يريدها الإسلام، معناها أن نكون نافعين بمعنى الكلمة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت)، وتقوى الله لا تكون بالصلاة والصوم فقط بل تكون بالمعاملة الطيبة للآخرين وأداء حقوقهم، كإغاثة اللهفان، وعيادة المريض وإعانة الضعيف، والإحسان إلى الجار، ونصرة المظلوم”.
«الحياد» و«الأنا مالية»
من جهته، يرى الدكتور محمود الصاوي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعه الأزهر، أن الإيجابية أهم وسيلة لنهضة ورقي أي مجتمع وتقدمه وريادته، بينما السلبية آفة قاتلة تصيب المجتمعات في مقتل وتؤخر المجتمع وتشده إلى الخلف وتثير التشاؤم وتقتل الأمل وتزرع الفشل في ربوع الوطن، ويشير إلى أن من صور السلبية:
الامتناع عن شهادة الحق مخافة أن يغضب الطرف الآخر، وهذا إثم كبير وسلبية، لا سيما إذا كانت هناك حقوق ستترتب على هذه الشهادة ربما تضيع من أصحابها إن امتنع الشاهد عن الإدلاء بشهادته، كما أن تفضيل البعض حجب رأيه مخافة أن يغضب مخالفه كتمان للشهادة، والله تعالى يقول: “ومن يكتمها فإنه آثم قلبه”، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله.. كيف أنصره ظالمًا؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه”،
وهذا يعني أن مواجهة الظالم بظلمه هي من سبل النصرة له، ويضيف: “يخطئ من يظن أن دوره وموقفه لا قيمة له، ولو كان بسيطا فأحيانا يقول البعض (أنا لست مع، ولا ضد)، (لا أؤيد ولا أرفض) وهذا خطأ، لا سيما في الأمور التي بها اقتراع أو تصويت كالاستفتاءات والانتخابات ونحوها، فأنت لا بد أن تعبر عن رأيك، إيجابا أو سلبا،
فهذا واجبك ولا يشغلك واجب غيرك أو النتيجة ماذا تكون، لأن السلبية والامتناع عن إبداء الرأي الذي تؤمن به يصب في مصلحة الطرف الآخر. لذلك تعد “الأنا مالية” أو الوقوف على الحياد خذلانا للحق ونصرة للباطل”.
الاغتراب الأسري
ومن جانبه يرى الدكتور محمد عبد السميع العميد الأسبق لكلية التربية بجامعة الأزهر أن (الانعزالية) أو (الأنا مالية) مفاهيم متعلقة بظاهرة الاغتراب الاجتماعي والأسري بسبب سوء التنشئة الاجتماعية وعدم تماسك أعضاء العائلة الواحدة،
ومرد ذلك قصور في التربية والتنشئة الاجتماعية، فالأسر تقوقعت على نفسها، ومن ثم ينشأ الأبناء على هذا النحو، والجيل الثاني لا يعرف شيئا عن الجيل الأول، ولا أحد يهتم بغيره ولو داخل عائلته فكيف يهتم بالآخرين، والسعي وراء المادة فعلت الأثرة والأنانية على حساب الإيثار، وتسبب في ذلك ضعف الوازع الديني واختزال الدين في شعائر ومظاهر وعبادات فقط،
مؤكدا أن هذا الأمر الذي يحتم ضرورة تكاتف الوسائط التي يتعامل فيها الطفل مع المجتمع وليس الأسرة وحدها، وأنه لا بد من تعاون وتكاتف الوسائط الإعلامية والثقافية والدينية وأن يأخذوا منهجا تكامليا، أي يتعاونوا مع بعض، فالمدرسة ليست مستقلة عن الأسرة ووسائل الإعلام، فالتعاون والتكامل بين هذه الوسائط سر نجاح عملية التنشئة الاجتماعية.
اقرأ أيضاً:
الأنا والآخر في تجليات الاختلاف الفلسفي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا