مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

الأنا والآخر في تجليات الاختلاف الفلسفي

الاختلاف سمة في الوجود، تبدو على مستوى المشاهدة وعلى مستوى التجربة أيضا، تمتد هذه السمة لتشمل جميع مفردات الوجود، فتشمل الجماد والنبات والحيوان والإنسان.

فلا شيء يماثل شيئا البتة، حتى التوائم المتماثلة، بينهما فروق عدة على المستوى الانفعالي والبدني والثقافي … ومن ثم فإن احترام الآخر لا يكون إلا بعد أن يؤمن كل منا بحق الآخر في هذا الاختلاف، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

لكن هب أن طرفا من الطرفين لم يمتلك الثقافة أو الوعي الذين يؤهلانه كي يعترف بالآخر ككيان مختلف عنه له الحق في أن يقرر ما يعتقده من قناعات وثقافات تخصه، كيف يكون الحل؟

احترام الآخر

وهنا سأتحدث عن نفسي، وأجعلني طرفا في المسألة، وسأتساءل: هل يجب عليّ أن أقصي هذا الآخر كما أقصاني؟!
بالطبع لا، إنما أستطيع أن أقول: إن هذا الآخر مخطئ, فهل يجب أن أمارس ما يمارسه الآخر عليّ من الاحتقار والإقصاء؟! بالطبع لا؛ فإن الخطأ لا يعالج بالخطأ, بل بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومن قال أن الأنبياء كان يرحب بهم في دعوتهم, فهل هذا كان مسوغا لأن يمارس الأنبياء ما مارسه أقوامهم عليهم من إقصاء واستبداد؟! كلا, بل غاية مهمة النبي هي “البشارة والنذارة”.

إن السبب الوحيد الذي يجعلنا أن نغلق الحوار أمام الآخر؛ هو أن يلجأ هذا الآخر إلى العنف، أن يحمل علينا السلاح، عندها وعندها فقط، تسقط أحقيته في الاختلاف، ويوصد معها أي باب مفتوح أمام أي حوار، عدا ذلك فإننا سنظل نردد قولة فولتير العظيمة «قد أختلف معك في الرأي، لكنني على استعداد لأن أموت دفاعا عن رأيك».

وكذلك الشيخ محمد عبده بلغ به احترام الرأي والرأي الآخر لأن يقول في نهاية إحدى خطبه: «أقول قولي هذا، ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله، وإلا خالفت ما أدعو إليه من استقلال الفكر وحرية الرأي، ولكنه رأي أعرضه على السامع، فإن وجده صوابا أخذ به، وإلا فإنه لم يخش شيئا سوى احتماله مشقة الحَرّ في هذا المجلس».

إن ارتفاع الصوت الواحد لا يكون إلا في الثقافات المستبدة, التي تخشى السؤال والمواجهة؛ لضعف في نفسها، أو وهن في حجتها، أو خطل في منطقها؛ لذا فهي تخشى أن يتم التوجه إلها بأي نقد، ومن ثم يرتفع صوت البندقية والمدفع في وجه الصوت المعارض لصاحب السلطة, فيتم إسكات المجموع لحساب الواحد الفرد، وكيف يتم إسكات باقي الأصوات إلا بالقوة والقهر، والبندقية والمدفع، فالعلاقة ضرورية بين الاستبداد والعنف، وبين احترام الاختلاف والاستقرار.

توافق أم تعايش؟

التوافق معنى قريب من التطابق مع اختلاف ضئيل بين الطرفين، أما التعايش: يعني قبول رأي وسلوك الآخر؛ فهو قائم على مبدأ الاختلاف واحترام حرية الآخر في طُرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، فهو وجود مشترك علي أية حال لفئتين مختلفتين، والتعايش بذلك يعاكس مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ووفق هذا فإن احترام حقوق الآخر في الاختلاف لا يعني أننا نتجاذب أطراف الخلاف لينزل أحد منا علي رأي الآخر, أو أن تقنع الآخر بوجهة نظرك، فهذا ما لا يعقل أبدا، فليس المرجو من احترام الخلاف أن نكون متوافقين، بل أن نكون متعايشين رغم اختلافنا, فالغاية هي التعايش وليس التوافق؛ لأن التوافق يعزز من الحد من حرية الآخر في الفكر والاعتقاد، أما التعايش فيمنح كل الأطراف الحرية التامة في تقرير أفكارهم وعقائدهم مع احترام الآخر في أفكاره وعقائده في نفس الوقت.

شهادات في التسامح والاختلاف:

لقد سبق تقدم أوربا بسنين حالات كثيرة تدعو من تعزيز الحرية واحترام الآخر وحقه في الاختلاف، فكتب جون لوك “رسالة في التسامح”، ومثله كتب أيضا فولتير “رسالة في التسامح”  بوّب فيها بابا بعنوان “شهادات في التسامح”، أورد فيها مجموعة أقوال في التعايش والتسامح والحق الإنساني في الاختلاف،

أقوال في التسامح:

ننقل منها هنا بعض الأقوال تخليدا لعظمتها:

ـ  «إنه لمن قلة الدين أن نَحرم البشر من الحرية في موضوع الدين، وأن نحول دون اختيارهم لإلههم؛ فما من إله يرغب في عبادته عبادة قسرية». [الدفاع، الفصل الرابع والعشرون].

–  «إذا فُرض الدين بالقوة لا يعود ديناً: فالمطلوب الإقناع لا الإكراه. فالدين ليس مما يؤمر به أمراً». [لاقتانسيوس: الكتاب الثالث].

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ـ «إنها لهرطقة مقيتة أن نَجتذب بالقوة، بالضرب، بالسجن، مَن عجزنا عن إقناعهم بالعقل». [القديس أثاناسيوس: الكتاب الأول].

ـ «لا شيء ينافي الدين كالإكراه». [القديس يوستينوس: تاريخ الشهداء، الكتاب الخامس].

ـ «أنضطهد من سامحهم الله؟!». [القديس أوغسطينوس قبل أن يغلو في التشدد نتيجة نزاعه مع الدوناتيين].

ـ « الإيمان يأتي بالاقتناع لا بالإكراه». [فليشييه، أسقف مدينة نيم، الرسالة 19].

ـ «لقد علمتنا التجربة أن العنف، بدلاً من أن يعالِج الداء الذي أرسى جذوره في النفس، قمين بأن يزيد من ضراوته».[دي تو: رسالة مهداة إلى الملك هنري الرابع]

ـ «مَثل الدين كمثل الحب: كلاهما لا يُفرض”. [آملو دي لا هوسيه: حول رسائل الكاردينال أوسا].

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الاختلاف حق مشروع

إن الحديث عن الاختلاف ليس من قبيل نافلة القول, فلست في حاجة إلى كثير من التكلف أو إعمال الفكر لأبين أن الاختلاف ليس مجرد خيارا جيدا؛ وإنما هو حتمية وجودية، يفرضها علينا القانون الطبيعي والوجودي، وليس ثمة خيار آخر، فإما الاعتراف بحقوق الآخر في الاختلاف، وإما النزاع. إما الاعتراف بأحقية الاختلاف وإما الصراع الذي من تبعاته حتما الفناء، ولا وسط ثالث بينهما.

إن الاختلاف حق مشروع، لا أقول يجب أن يمنح لجميع أفراد العقلاء، لأن المنح قد يأتي بعد منع، وإنما أقول: يجب احترامه من قبل المشاركة في الحوار قبل البدء فيه.

يؤسفنا أن نري الصراع بين السنة والشيعة قائما إلي اليوم، في حين أن النبي قد تعايش مع اليهود في المدينة، وبالرغ من أن اليهود كانوا يقولون في الله قولا عظيما، لا أقول في “علي” أو “معاوية”، فكانوا يقولون “الله فقير ونحن أغنياء” وكذلك النصارى الذين كانوا يقولون حينذاك علي مريم “بهتانا عظيما”, ورغم ذلك تعايش النبي معهم،

بينما نحن إلي اليوم في صراع بين سنة وشيعة، لم نستطع أن نتجاوز هذه الأزمة التي لازلنا نجني ثمارها منذ أربعة عشر قرن حتى اليوم, لم نستطع أن  نقرر الحق في الاختلاف في المسائل الفرعية, في حين أقره النبي في الأصوليات، إنني يعتصرني الألم حينما أرى العالم يتجاوز صراعاته وخلافاته؛

فالكوريتان تجاوزا نزاعاتهما وقد تصالحا, وكذلك أوربا التي قامت بين عناصرها حربان عالميتان أودت بحياة ما يقرب من عشرين مليون شخص, أصبح لهم اليوم اتحادا أوربيا يوحد بينهم في العملة والقوة. أفلا نقول “نحن أحق بثقافة احترام الاختلاف منهم”.

اقرأ أيضاً:

“هارمونيا الأنا والذات والآخر في سياق التنوع”

كيف يحدث الخلاف بيني وبينك؟

الاختلاف الواجب قبوله بين مركزية الإنسان ومركزية الإله

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

هاني عبد الفتاح

كاتب وباحث دكتوراه بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الفيوم

مقالات ذات صلة