فن وأدب - مقالاتمقالات

اللغة والطبيعية.. هل ثمة علاقة؟

كنتُ في لحظة تأمل لغوي حينما طُرق الباب، فهممت أن أفتحه، وأثناء قيامي، عبَرَ ذهنيَ ملاحظةٌ تستفزني وتقول: هل لاحظت التقارب بين مهمة “الباب”، وهي الفتح والإغلاق، وبين حركة الشفتين حينما نطقت كلمة “باب”، وهي نفسها ما تم أثناء نطقها من فتح وإغلاق للفم؟ إنه مثير حقًا مجرد أن تفكر في أن ثمة علاقة بين أصوات الكلمات وبين معانيها ودلالاتها، أو بين “اللغة” من جانب و”الطبيعة” من جانب آخر، حتى ولو كان مجرد افتراض ليس من السهل التحقق من صحته.

لقد كان تعريف ابن جني (ت392هـ) للغة على أنها “أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”([1]) تعريفًا عبقريًا، له بعد فلسفي، حينما عبّر عنها بأنها “أصوات”، إذ الصوت هو المادة الخام التي تعتمد عليه أية لغة. فهل يمكن أن نثبت أن هناك تقاربًا بين صوت الكلمة ودلالاتها، بين الاسم والمسمى في جانب الإيقاع الصوتي أو الفعلي؟

هل اللغة فطرية أم مكتسبة؟

ثمة اختلاف حول كون اللغة ضرورة “توقيفية” أو مكتسبة “توفيقية”، لقد أكد القرآن على أن اللغة ضرورية، أي أنها حاصلة من الله بلا اكتساب ونظر، فهي “توقيفية” من الله لآدم، حينما قال “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” [البقرة: 31]، وممن ذهب إلى هذا ابن فارس [395هـ] وغيره. بينما يرى البعض أن اللغة “توفيقية”، توافق عليها البشر بين بعضهم، أي أنها مكتسبة، فلو كانت ضرورية “توقيفية” لاقتضى ثبات بنائها ودلالتها، والواقع يقول إن اللغة متغيرة ومتطورة، فلو كانت “توقيفية” لاقتضى بقاؤها على ما هي عليه، وممن ذهب مذهب أن اللغة اصطلاحية توفيقية الأسفرييني [418هـ]، ابن خلدون [808هـ]، والسيوطي [911هـ].

طبيعة اللغة ومكوناتها

طبيعة اللغة ومكوناتهاإن لغتنا مؤلفة من أصول قليلة، أحادية المقطع، في معظمها مأخوذة من محاكاة الأصوات الخارجية، وبعضها من الأصوات الطبيعية([2])، مما يعني أن الإنسان كان يقلد أصوات الطبيعة في أول أمره، وكانت هذه المحاكاة صورة من الأشياء أو وصفًا لها، أو دلالة عليها من جهة ما، كأن أعبر عن السماء بـ”آ” مفتوحة لمناسبة ارتفاعها، وعن الأرض بـ”إ” مكسورة لمناسبة انخفاضها، وعن الهواء بـ”و” لمناسب صوت الهواء في شدته بصوت الواو، وهو ما يطلق عليه “اللغة الوظيفية”، أي اللغة التي تؤدي وظيفتها في الإشارة إلى الأشياء، تفريقًا بينها وبين “اللغة العالمة” التي نستخدمها اليوم، وهذا محض افتراض مني، لكنه افتراض يدعمه كثير من الشواهد اللغوية التي سنتعرض لها في السطور القادمة.

لقد كتب ابن سينا [428 هـ] رسالة فريدة تحت عنوان “أسباب حدوث الحروف”، وبوّب فيها بابًا أسماه “في أن هذه الحروف قد تُسمع من حركات غير نطقية”، حاول فيه أن يثبت أن الطبيعة تصدر أصواتًا مثلما يصدر عن الإنسان الحروف، “فالخاء” مثلًا، يمكن سماع صوته عند “حك جسم لين حكًا مثل القشر بجسم صلب، والقاف: عن شق الأجسام وقلعها دفعة، والكاف: عن وقوع كل جسم صلب كبير على بسيط آخر صلب مثله، والسين: عن مس جسم يابس جسمًا يابسًا وتحركه عليه حتى يتسرب ما بينهما من هواء عبر منافذ ضيقة جدًا، والطاء: عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتين، والفاء: عن حفيف الأشجار”([3])، مؤكدًا بهذا على أن الطبيعة تنطق بأصوات تشبه خامات الحروف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: اللغة وفلسفتها

تعرف على: أسباب تراجع ِاللغةِ العربيةِ الفصيحةِ

من محاكاة الصوت الطبيعي إلى بناء الكلمة

إن اللغة نظام من الإشارات، وكل كائن حي لديه نظام يمكنه من التواصل مع أفراد فصيلته، فالصراصير تصرصر، والطيور تغرد، والقردة توقوق، وحشرات الليل تومض، حتى النمل يترك آثارًا ذات رائحة حتى يتسنى لجماعته اتباع بعضها، ولا شك أنك مقتنع بتواجد بعض الإشارات والإيماءات الخاصة بقطتك والتي تعني “أنا جائعة” أو “أريد الخروج”، وهذه الأمثلة سقناها لبعض الأنساق الإشارية للتدليل على أنها شكلت النظام الإشاري اللغوي للإنسان الأول، الذي دفعته انفعالاته الوجدانية، وتواجده في إطار الجماعة، إلى ابتداع أصوات للتواصل والتفاعل مع الآخر والوجود، ثم غدت هذه الأنظمة اللغوية البشرية أكثر تطورًا مع تطور العقل البشري([4]).

إن الافتراض الذي نفترضه يرى أن اللغة تألفت في البداية من محاكاة الإنسان أصوات الأشياء للدلالة عليها، كما لو أراد الدلالة على الكلب قام بتقليد عواءه، أو الإشارة إلى الرياح بتقليد صوت هبوبها، ولدينا كثير من الشواهد اللغوية التي تدعم هذا الافتراض. فمثلًا كلمة “قطع” نرى إيقاعها الصوتي يتقارب مع فعل “القطع” نفسه، ومثلها كذلك في الإنجليزية cut وهي كلمة تعطي نفس الصوت والدلالة. إن المتأمل في كلمة “روح” أثناء نطقها يرى أن دفعة كبيرة من الهواء تخرج من أعماق الرئتين، دلالةً على “الحياة” المتمثلة في أعماق الإنسان من الداخل، وكأن دلالة الكلمة الصوتية والفعلية حال نطقها تشير إلى دلالتها الفعلية في الواقع الخارجي. نجد كذلك ارتباط كلمة “نفسْ” بـ”التنفس” وهي حركة الشهيق والزفير، مثل الترابط الضروري بين دلالتهما، حركة الهواء أثناء النطق وحركة التنفس الدالة على النفس.

التصوير الفني في القرآن

طبيعة اللغة ومكوناتهالقد كنت عندما أقرأ سورة النجم في القرآن أقف عند قوله “تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى” [النجم: 22]، كنت لا أعرف ما معنى كلمة “ضيزىٰ”، لكن إيقاعها الصوتي يشير في نفسي إلى دلالة غير جيدة، حتى وإن لم أفهم معناها بعد ذلك على أنها قسمة ظالمة، أو جائرة، وهو ما أشار إليه “سيد قطب” في تفسيره وفي نظريته حول “التصوير الفني في القرآن”، لكنه كان بشكل أدبي أكثر، فعندما تعرض إلى قوله “فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ” [آل عمران:185]، يقول: “فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركته المعهودة، وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار”([5]).

أيضًا يقول في تفسيره لأول آيات سورة القارعة في القرآن: “والقارعة: كلمة توحي بالقرع واللطم، فهي تقرع القلوب بهولها. والسورة كلها عن هذه القارعة، حقيقتها، وما يقع فيها، وما تنتهي إليه، فهي تعرض مشهدًا من مشاهد القيامة، لقد بدأ بإلقاء الكلمة مفردة كأنها قذيفة: {القارعة} بلا خبر ولا صفة، لتلقي بظلها وجرسها الإيحاء المدوي المرهوب! ثم أعقبها سؤال التهويل: {ما القارعة}، فهي الأمر المستهول الغامض الذي يثير الدهش والتساؤل!”، لكن تحليل سيد قطب تحليل أدبي في صميمه للنص القرآني، أكثر منه تحليل فلسفي لبنية اللغة.

اقرأ أيضاً: تناقص اللغة تناقص في الإنسانية

اعرف عن: أسباب تنوع الألفاظ في اللغة

اللغة العربية بين الدال والمدلول

بالعودة مرة أخرى لذكر الشواهد على افتراض وجود دلالة وصف بين اللفظ والمدلول، نجد مثلًا أن كلمة “آه” تدل على التوجّع، واشتقت اللغة منه فعل “التأوه”، كإشارة إلى التعبير بها وقت الألم، ومثلها كذلك كلمة “أوف” لتشير إلى “الضجر والاستكراه”. كذلك “تفَ”، والتي تعني “بصق”، وهي ما تشير بصوتها نحو فعل “البصق”، ولما كان الإنسان يبصق أحيانًا استخفافًا بالأمر، استعملوا منها “التفاهة” دلالةً قريبة منها.

لاحظ معي أيضا كلمات “قط” و”قص” و”جز” و”جذ” و”خز” و”خص” تجد أنها متقاربة في إيقاعها الصوتي، الذي يشبه القطع في نطقه ونغمته وإيقاعه في الوقف المفاجئ بما يشبه القطع والفصل، وكلها كذلك تحمل دلالة متقاربة تعني “القطع والمنع”، كذلك كلمات “نهش” و”نبش” و”كبش” لها دلالة الافتراق والانتشار، تماما كإيقاعها الصوتي الذي يوحي بتفشي صوته من الفم. لذلك نجد محاولات لجمع الدلالات الصوتية لكل حرف في دلالة معينة، مثل الشين لها دلالة “التفشي والانتشار”، ومنه معاني شاع، وشتت، وشرر، وشذ، ونشر، وشجر، وشهر، وشعب، وشعث، وشظظ، وشعشع، وشعل، وشكر، لأن الشكر عرفان الإحسان ونشره، و”بذر” التي كانت في الأصل “شذر” ثم أُبدلت الشين باء، وهكذا.

كذلك حرف “القاف” الذي له دلالة “القطع والفصل” والذي منه أفعال بقر، وبقع، وثقب، وسحق، وسقع، وسقط، وشقق، وعقق، وقضم، وقرض، وقسم، وقصم، وقسط، وقطط، وقطر، وقلع، وقوض، ونقص، ونقض، بمعنى هدم. لذلك نرى كلمات مثل “حق” و”يقين” و”قطع” و”عقيدة” فيها دلالة “القطع” ماديًا ومعنويًا، وكلها فيها حرف القاف.

أيضًا فالغين لها دلالة “الخفاء والغموض”، والخاء على “البشاعة والقذارة”، والحاء على “الحرارة والمشاعر الإنسانية“، والراء على “الحركة والاضطراب”، وهكذا في باقي الحروف.

تطور اللغة العربية

طبيعة اللغة ومكوناتها

يبقى اعتراض يمكن صياغته في سؤال يقول: هل القاعدة في هذا الافتراض مضطردة؟ والواقع اللغوي يجيب بـ”لا”، لكن على الجانب الآخر نجد أن كثيرًا من مفردات اللغة منقلب عن أصول أخرى مثل كلمة “نكص” بمعنى أحجم، أصلها “نقص” وفيها القاف الذي يشير إلى دلالة المنع والقطع. والأمثلة في ذلك كثيرة، فلا نستطيع أن نجزم باضطراد القاعدة في التوافق بين اللفظ والمدلول دائمًا، لا سيما وأن اللغة تخضع لسنة التطور، لكن لا يمنع هذا من ملاحظة هذا الملمح في كثير من الدلالات الصوتية للكلمات، من أن علاقة وثيقة تربط “الكلمات” بـ”الأشياء” من حيثية ما، وأن ثمة تشابه في إيقاعها الحركي أو الفعلي أثناء نطقها وبين دلالة الشيء نفسه في الخارج.

إن اللغة تنمو وترتقي وتتنوع وتتفرع وتتكاثر وهو ما يسمى باصطلاح اللغويين “القلب” مثل جوز وزوج، جاء وأجا، وسكب وسبك، و”الإبدال” مثل ثبات وسبات، وضبط وظبط، وصعق وسحق، و”النحت” مثل إيش المنحوتة عن “أي شيء؟”، وشنو المنحوتة عن “أي شيء هو؟”، و”مش” في العامية المصرية والتي تعني “ما هو شيء”، و”بدي” التي كانت “بودي”، و”كمان” والتي تعني “كما أن”.

هكذا اللغة تتطور جريًا على ناموس الارتقاء العام، وهذا مما يغلب صحة افتراضنا من أن اللغة في بدايتها كانت أصواتًا تشير إلى دلالات حقيقية في الخارج، تقتبس منها مشابهة كلية أو جزئية لتكوّن علاقة بين اللفظ والمدلول أو بين الاسم والمسمى، أو صفة في المسمى أو بوجه ما من الاعتبارات.

المصادر

[1])) ابن جني: الخصائص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، ج1، ص34

[2])) جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، دار الهلال، 1969، ص 130

[3]))ابن سينا: أسباب حدوث الحروف، تحقيق: محمد حسان الطيان، ويحيى مير علم، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، دت، ص93-97

[4])) التهامي الحايني: اللغة والطبيعة، من محاكاة الصوت الطبيعي إلى بناء الكلمة، دار صفاء، عمان، ط1، 2016، ص14-15

[5])) سيد قطب: التصوير الفني للقرآن، دار الشروق، القاهرة، ط16، 1988، ص76

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

هاني عبد الفتاح

كاتب وباحث دكتوراه بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الفيوم