مقالاتفن وأدب - مقالات

” العقلانية ” في قفص الاتهام- التهمة الأولى؛ العقلاني عديم العاطفة جاف المشاعر!

هل تدعو العقلانية إلى ذلك حقًا؟

تُرى هل توقف الزمن عن المُضِيِّ قُدمًا؟ أم أنني قد غرقتُ في إحدى تلك الثقوب السوداء حيث لا مرور للوقت بداخلها كما ادّعى بعض العُلماء؟ فأيامي متشابهة كأنها مجموعة من المشاهد المصورة عنوانها التكرار لا سبيل للمناص أو الإفلات منها، حياتي أصبحت عديمة الغاية، بدون شغف، بلا أي لون يمنحها شيئًا من معنى أو هدف.

كم مرة راودتني فيها تلك الأفكار؟ وهل ستكون المرة الأخيرة؟ حتمًا لا، طالما لا زلت على قيد الحياة، ولكن لا بأس فسترحل عني سريعًا متى انغمست في ساعات عملي الطويلة، فهي كفيلة بإخماد ثورتها وتشتيت تركيزي عنها، كفيلة بأن تمنحني ملجأ للهروب منها؛ لذا سأُسرع الخطى نحو الخوض في أدوار حياتي، أم يجدر بي القول الإسراع في الفرار من تكرار غزو تلك الأسئلة على عقلي من جديد.

أحيانًا أتأمل وجوه الناس التي تسير من حولي؛ فألمح على بعضها ملامح أَلِفتُها طويلاً كلما نظرت إلى المرآة؛ تكاد تكون قسمات وجوهم منسوخة عني، ووجوهٌ أُخرى مُشرقة، مرسوم على ثغورها ابتسامات صافية وتلمع عيونهم بلآلئ البهجة والسرور، فكأنهم يعيشون في عالم غير الذي نحيا فيه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رأيتُ فيهم غير مرة الفتى الذي تخلى عن مقعده في الحافلة لمن يكبره سَنًا أو لشخص مُتعب أو لطفل صغير فعلى الرغم من صعوده الحافلة أولًا؛ إلّا أنه فضّل التخلي عن مقعده لغيره ببساطة، فيا للعجب! ألا يأبه بالتعب الذي سيحصده جرّاء وقوفه طيلة الطريق؟! وفي النهاية لم ينل سوى بعض عبارات الشكر والتقدير؛ فهل يُعقل أن هذا فقط سيُغنيه عن تعب وقوفه الطويل؟

رأيت فيهم الأهل الذين يقضون أوقاتهم في اللعب مع أطفالهم في الحدائق والمنتزهات! ألم يكن من الأفضل لهم أن يستغلوا هذه الساعات في مزيدٍ من العمل الذي يُدِّر عليهم مالاً أكثر ويوفروا لأولادهم ما يحتاجونه من أكل وشرب ولباس وغيرها من متطلبات العصر بدلاً من هدر أوقاتهم في التسلية واللهو.

رأيت فيهم أيضًا من أسرعوا نحو ذلك الفتى الذي سقط من على دراجته للاطمئنان عليه وتطبيب جراحه ومساعدة على الوقوف مرة أخرى، فما الداعي لكل هذا؟ لما لا يُسقطون عن كواهلهم عبء مشاعرهم المُرهفة عديمة الجدوى تلك؟ فما غنموا منها سوى ضياع أوقاتهم بما لا يجلب لهم نفعًا أو يُقلدهم منصبًا أو يزدهم شُهرةً أو مالًا.

غالبًا لم أعهد الوقوف أمام ما يصادفني من تصرفاتهم التافهة وكلماتهم االساذجة فلا وقت لدى لأستمع لعباراتهم اللطيفة تلك أو مشاهدة سلوكياتهم المغمورة بالحب والرحمة؛ فلا ينبغي لي التأخر عن حياتي العملية الجادّة فيكفيني التفاني في وظيفتي والتفكير بعقلي وفقط بعيدًا عن السقوط في دوامة من المشاعر والأحاسيس غير المثمرة؛ فأنا شخص عقلاني بامتياز.

لكن هل تعني العقلانية أن نضرب بعواطفنا ومشاعرنا عرض الحائط؟ هل تجرفنا العقلانية نحو صم آذانِنا عن ألحان أحاسيسنا الرقيقة؟ وكفِّ شفاهِنا عن الكَلِم العذب؟ هل يُمثل الفكر السابق نموذجًا سليمًا لما تعنيه العقلانية ؟ هل هذا ما تدعو إليه حقًا؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا أبدًا؛ فالعقلانية تدعو للبحث عن الحق ومعرفة ذات الأشياء، فتبحث في ماهية الإنسان وتدرك ما له من جسد و جوهر روحاني لا يروي ظمأه سوى فرات العلم والأخلاق؛ فتعشق القيم السامية و تبغي الحق، شغوفة بكل جميل من قول أو عمل، هيامها العدل، وكل من انتسب لها ولم يَعِ مقصدها الصحيح؛ لم ولن يغير في حقيقتها شيء.

فجوهر العقلانية الحقيقي يدعوك للحفاظ على مشاعرك وأحاسيسك في حصن مكارم الأخلاق والقيم النبيلة، أن يعتليها تاج العفة والوقار، وأن تجعل من فرسان الكرم والشجاعة وأبطال التضحية والإيثار حُماةً ومرشدين لها؛ ليُصححوا وجهتها متى ضلت؛ فتصبح مُدركة لما ومن تحب ولم تحب وكيف تحب.

 

اقرأ أيضا:

القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)

اضغط على الاعلان لو أعجبك

القلب والعقل – كيف نحل الصراع بينهما ولمن تكون الحاكمية على الأخر ؟

العاطفة والعقل .. حرب لا تنتهي وصراع يصعب على الكثيرين حسمه

ندى علاء منصور

عضوة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة