وفي الأرحام نجاة
كانت الرياح الباردة في شهر يناير تدفعها دفعا فلا تستطيع المقاومة، بطنها تنوء بما حملت، شوارع نيويورك بسياراتها الفارهة المسرعة تثير داخلها الفزع والرغبة في الفرار من كل ذلك إلى دفء وطنها، حيث المنزل الذي فيه درجت وبه ألفت معنى الحب والحنان.
كيف سارت بها الحياة إلى هذا الموضع الأليم؟ أيكون ذلك كله جزاء ما فعلت؟ ولماذا تحمل المسؤولية وحدها؟ ألم تفعل أخواتها مثلما فعلت؟ لماذا إذن هي من تعاني وحدها؟ وصلت بعد معاناة إلى باب المستشفى ثم سقطت مغشيا عليها.
بعد بضع ساعات وقفت الممرضة جوار سريرها تحمل بين يديها رضيعا، ثم قالت بوجه باسم: “طفل جميل مثل أمه”. وضعته عند صدرها برفق وقالت: “أنا راشي سأعتني بكما حتى تنتهي ساعات عملي اليوم، أرضعيه وسأعود إليك بعد قليل لأخذ بعض البيانات”.
سأسميه “إسماعيل”
نظرت إلى الصغير لا تصدق نفسها، لا تصدق أنها تحمل بين يديها روحًا كانت داخلها لمدة تسعة أشهر، تحمل جزءًا منها، جزءًا من زوجها الراحل “مجاهد”. ترقرقت الدموع في عينيها، فسقطت قطرة على خد الصغير ليفتح عينيه للمرة الأولى في حياته. رأت حدقتيه الرماديتين مثل أبيها، فتحولت دموعها إلى سيول جارفة امتزجت بالحليب الذي يلثمه الصغير من ثديها. إنها الآن ترضعه الحنين مع الندم في آن واحد.
عادت الممرضة تحمل في يدها استمارة، حملت الرضيع لتضعه على سرير صغير يتحرك على عجلات، ثم سألتها: “ما اسمكِ؟”، أجابت بصوت واهن: “عزة”.
- الجنسية؟
- فلسطينية.
- اسم والد الطفل؟
- مجاهد.
- وماذا ستسمين الصغير؟
صمت برهة ثم قالت: “سأسميه إسماعيل”، واستطردت تحدث نفسها: “على اسم جده، أبي رحمه الله، لعله يأخذ من الاسم حظه في الإيمان واليقين”.
ذكريات مؤلمة
ضمت الممرضة حاجبيها، وقد بدأ العجب يجتاح نفسها، والفضول يأكلها، ثم سألت: “عنوان السكن؟”، صمتت عزة مرة أخرى، اغرورقت عيناها وهي تفكر، ماذا تقول؟ مات زوجها من أسبوع، وهو عائلها الوحيد. وصاحب السكن لم يرحمها في عز مصابها. هددها بطلب الشرطة إن لم تدفع الإيجار المتأخر حتى أنها خرجت من المنزل متسللة كي لا يراها.
لاحظت الممرضة ما اعتمل في نفسها من مشاعر حزينة، فسحبت السرير الصغير برفق حتى لا توقظ الملاك النائم عليه، ثم قالت وهي تغادر الغرفة: “اهدئي قليلا وسوف أعود إليك مرة أخرى”. أغلقت الباب خلفها، وكأنها تغلق على عزة أبواب الذكريات التي بدأت تحاصرها من كل اتجاه.
تذكرت منزلهم المريح ذا الحديقة المزهرة عند شاطئ البحر بغزة، بسمة والدها وهو عائد من عمله بالصيد مساءً، يجري ليأخذها في حضنه ويرفعها عن الأرض فتشعر أن الدنيا كلها ملك لها، تنظر إلى أخواتها وتُخرِج لسانها لتغيظهم فهي المحظية باهتمامه وحنانه رغم أنها الوسطى، فهن خمس فتيات، لكنها كانت المميزة بينهن بحنانها وتعلقها بأبيها الذي لم تُمهلها الحياة الوقت الكافي لتشبع منه.
رحيل الأب والأم
تذكرت ذلك اليوم الأسود، القصف يدوي في كل مكان، هي تقف عند النافذة تنتظر على جمر عودة أبيها من العمل، أمها تناديها لتبتعد عن النافذة خوفا عليها حتى لا تصيبها شظية، لكنها لن تبرح حتى يعود وتقر عينها به. فجأة تراه قادمًا من بعيد يحاول تفادي القصف، لكنه قضاء الله وقدره، هوت القذيفة جواره مباشرةً ليطير في الهواء ثم يسقط على الأرض وقد فارق الحياة.
لبسن الأبيض كما وصاهن، وبدأت أختها الكبيرة “نبيلة” تضيق عليهن في الخروج من المنزل، حتى أنها منعتهن الذهاب إلى المدرسة بحجة الخوف عليهن من الشباب الأغراب الذين يتجولون في الحي ليل نهار. تلك المجموعة التي لا يعرفون من أين ظهروا فجأة، يروعون الفتيات، لا يحترمون كبيرًا ولا صغيرًا، ولا يقدر عليهم أحد.
أما الأخت الثانية “لبنى” فكانت متمردة لم تلتزم يوما بقرارات “نبيلة”، بل كانت تهرب من المنزل لتقابل معلم اللغة الفرنسية اللبناني عند شاطئ البحر، حتى خرجت في يوم ولم تعد. لم تتحمل الأم هذه الصدمة بعد موت زوجها ففارقت الحياة لتترك أربعا من البنات بقين وحدهن بعد موت الأب والأم وفرار الأخت يواجهن المجهول.
ثم أتت رسالة من” لبنى” تخبرهن أنها تزوجت معلم اللغة الفرنسية وأنها سافرت معه إلى موطنه لبنان، وهي بأحسن حال. يا ليت هذه الرسالة جاءت مبكرة قليلا لعلها تكون راحة لأمهما قبل موتها.
تفرق الأخوات وترك البيت وحيدا
ست سنوات مررن بعد ذلك، “نبيلة” تعيش دور الأب والحامي، تقف لهؤلاء الأغراب، تتحمل مضايقتهم تارة وتواجههم تارة أخرى، تدافع عن أخواتها بكل ما أوتيت من قوة وبأس. إنهن رحمها وحرمتهن من حرمتها، هكذا علمهن أبوهن، أن في اتحادهن قوة وفي صلتهن صلابة تواجه كل الصعاب.
وبعد حين جاء “مجاهد” ليخطب “عزة” فرفضت “نبيلة” بشدة لأنها رأته ضعيفًا يتحدث أكثر مما يفعل. لن يحمي أختها وهي لن تُلقي بها إلى التهلكة. لكن “عزة” لم ترضخ، قررت أن تفعل مثلما فعلت “لبنى”، ستهرب لتتزوج من “مجاهد”.
أما هو فكان كما توقعت “نبيلة” لا يملك الشجاعة ليفعل ذلك، على الأقل في غزة أمامها، فماطل وماطل حتى أتته فرصة للهجرة، فأخذها وسافرا إلى أمريكا حيث تجلس هي الآن لا تملك من أمر نفسها شيئا.
عرفت بعد ذلك أن أختها التي تصغرها “سعيدة” تزوجت من رجل خليجي أو بيعت له كما قال “مجاهد”، رغم أنها لم تصدق أن تقبل “نبيلة” بذلك، لكن النتيجة سواء، فقد تركت المنزل هي الأخرى، كما تركته أصغرهن “غدير” عندما تزوجت رجلًا من المغرب تواصل معهن عن طريق معرفة قديمة بوالدهن.
لتكون “نبيلة” هي آخر من غادر المنزل عندما أصبحت وحيدة، وافقت أخيرًا على الزواج من “مصري” الصياد الذي كان يعمل مع أبيها، وكثيرًا ما طلب منها الزواج عندما كان يأتي في رحلات الصيد، لكنها كانت ترفض دائما التخلي عن أخواتها أو عن منزلهن. والآن هي تعيش معه في مصر، قد تركت البيت ليرتع فيه الأغراب.
تواصل شبه منعدم
كان آخر اتصال بينهن منذ عام أو يزيد، ظلت الفترات بين الاتصالات تبتعد رويدًا حتى أصبحت شبه منعدمة، كل واحدة منهم شُغلت بزوجها وأبنائها، نسين الصلة التي دائمًا ما كان أبوهن يوصيهن بها، نسين الرحم الذي ما كان له أن يُقطع،
نسين المنزل الذي آواهن صغارًا، وبناه أبوهن حجرًا حجرًا على كتفيه، رسم أسماءهن على حوائطه بدمه ودموعه، وحفر فوق بابه قول الله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ».
بداية معركة قبل التئام الجرح
دخلت “راشي” فجأة لتنتزعها من بحر الذكريات، كانت قد بدلت زي التمريض وارتدت ملابسها العادية، جلست على حافة السرير، على وجهها ابتسامة صفراء، قالت بلهجة متشفية: عزيزتي عزة، آسفة على ما سأقول، لكن إدارة المستشفى قامت بالاستعلام عنك واتضح أنك لا تملكين أي مصدر للدخل أو مكان للسكن،
كما أن إسماعيل يحمل الجنسية الأمريكية بحكم القانون، لذلك قمنا بالتنسيق مع الشؤون الاجتماعية وهم من سيتولى رعايته إلى أن تقرر المحكمة، هل سيعود إليك أم ستتولاه أسرة حاضنة إذا كان في ذلك مصلحته؟
قالت هذه الكلمات وغادرت مبتسمة كأنها انتصرت على عزة في معركة لا تعرف عنها الأخيرة شيئًا، بل لقد كانت منهزمة حتى قبل بداية المعركة. جرحها كان ينزف من الداخل منذ سنين مضت، والآن تغرس فيه هذه اللعينة سكينًا ثلمًا ثم تتركها لتموت ببطء وتغادر.
أصابها الوجوم كأنها تسقط في بئر لا نهاية له، فقدت مجاهد من أسبوع والآن يريدون أخذ ما تبقى لها في الحياة، يريدون سرقة فلذة كبدها. رنت في أذنها كلمات أبيها “كل شيء في الحياة يهون إلا الدم والأرض، ولا يصونهما سوى التلاحم والتراحم وصلة الأرحام”.
نبيلة تخاطب الأخوات
استجمعت أفكارها، لن تتركهم ينتصرون عليها، لن تترك دمها يرعاه أحد غيرها، يكبر بعيدا عن حضنها، ينشأ على عادات وتقاليد غير التي تربت عليها وغرسها أبوها فيها صغيرةً. نظرت إليه نظرة وداع مؤقتة وهي تغادر المستشفى، نائما كملاك تقف جواره موظفة الشؤون الاجتماعية و”راشي” التي لا تزال على وجهها تلك الابتسامة المستفزة.
هاتفت “نبيلة”، قصت عليها كل ما حدث لها، استنجدت بها وطلبت منها أن تخبر أخواتها. أخبرتها أن جلسة المحكمة ستكون خلال أسبوع واحد، وأن إقامتها ستنتهي أيضا خلال هذا الأسبوع. بكت وبكت معها “نبيلة”.
قالت والدموع تغرق الكلمات التي تقف في حلقها ولا تريد الخروج، أنها ستموت بل ستقتل نفسها لو حكموا عليها بالترحيل دون إسماعيل. فوعدتها نبيلة أنها لن تتخلى عنها أو عن ابنها مهما حدث، وأن للقطيعة بينهن ثمنا يجب أن يدفعنه جميعًا.
كانت “نبيلة” على تواصل مع بقية الأخوات من آن إلى آخر، لم تستطع أبدًا التخلي عن كونها الأخت الكبرى. تشد عليهن في الحديث تارة وتترفق بهن تارة أخرى، وكأنها تشعر أن شعرة الصلة بينهن يجب ألا تقطع، وأنهن لا بد لهن من الوصل مرة أخرى، لكنها لم تكن تدري كيف سيحدث ذلك؟ حتى حدث لعزة ما حدث، فخاطبتهن واحدة تلو الأخرى، وأمرتهن أمرًا لا جدال فيه.
في قاعة المحكمة
في قاعة المحكمة وقفت عزة يأكل بعضها بعضًا من القلق والتوتر، تسأل نفسها، هل ستصدق نبيلة في وعدها؟ هل ستتخلى عنها أخواتها؟ هل سيضيع إسماعيل اليوم ويضيع معه كل أمل في أن تعود بينهن صلة الرحم مرة أخرى؟ فهي إن حدث ذلك لن تسامحهن ما بقت على قيد الحياة.
نادى القاضي اسمها، وقفت تنظر إلى إسماعيل في حضن موظفة الشؤون الاجتماعية، يجلس جوارها زوجان يرغبان في الاستحواذ على فلذة كبدها، و”راشي” تلك المقيتة تجلس في الخلف لا تعرف ما الذي أتى بها. ترقرقت الدموع في عينيها، فوقفت أمام القاضي لا تكاد تراه، كما لا تحملها قدماها من شدة خفقان قلبها.
قال القاضي مقدمة معتادة في مثل هذه الحالات عن حق الطفل في حياة آمنة مستقرة، ثم وجه إليها حديثه قائلًا: كيف ستعتنين بهذا الصغير يا سيدتي؟ تدافعت الكلمات على شفتيها تخبره أن لا ذنب لها في كل محطات الاغتصاب التي مرت بها، لا ذنب لها في عدو اغتصب الأرض ثم اغتصب روح أبيها مبكرا حتى لا تكبر في كنفه وتحت رعايته،
لا ذنب لها في عصبة من الأغراب اغتصبوا حريتهن ليفررن من منزلهن ثم يغتصب المنزل نفسه بعد ذلك، لا ذنب لها في غربة اغتصبت أخواتها منها ليصرن أغرابا لا يعرفن شيئا عن بعضهن، لا ذنب لها في مرض اغتصب زوجها في عز شبابه وعز احتياجها له. والآن حتى هذه المحاكمة تريد اغتصاب ابنها منها.. ثم انهارت باكية ليبكي معها كل حي وجماد في القاعة بل في الكون كله.
إسماعيل يعيد جمع الأخوات
فجأة شُرّعت أبواب القاعة، دخلت أخواتها مسرعات كأنهن نهر لا يصده صخر، ويحمل الخير في جريانه. احتضنّها حضنا يعوض سنوات البعد والجفاء، حضنا يرد الخصوبة إلى الأرواح التي أصابها اليباب من الابتعاد والاغتراب. وقفن أمام القاضي كل واحدة منهن تمسك يد الأخرى، وخلفهن أزواجهن سندًا وعونًا. قلن في صوت واحد كلنا أمهاته وكلنا سنرعاه.
جمعهن إسماعيل ابن أختهن صغيرًا كما كان يجمعهن إسماعيل أبيهن صغارًا، واستجبن لنداء عزة كما استجبن لأمر نبيلة. إنها الاستجابة الفطرية لصلة الأرحام.
خرجن ممسكات ببعضهن لا تريد واحدة منهن أن تفلت يد الأخرى، “عزة” تحمل إسماعيل في حضنها، ثم حانت منها التفاتة إلى “راشي” التي بدى على وجهها العبوس، وقالت: “صدق أبونا حين قال: وفي الأرحام نجاة”.
تمت
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا