مقالات

سفينة الحمقى! .. الجزء الثاني

«الجاهل يظن أنه حكيم، أما الحكيم فيعرف أنه أحمق» (وليم شكسبير: كما تحبها)

يلخص الفيلسوف البريطاني «جوناثان وولف» (Jonathan Wolff من مواليد 1959)، في كتابه «مقدمة للفلسفة السياسية» (Introduction to Political Philosophy 1996)، حجة «أفلاطون» على النحو التالي: «الحكم مهارة، مثل الطب أو الملاحة. ومن المنطقي ترك ممارسة المهارات للخبراء. لكن في الأنظمة الديمقراطية، الشعب هو الذي يحكم، والعوام ليسوا خبراء، لذا تغدو الديمقراطية غير عقلانية»! فهل يكون العوام حقًا غير أكفاء في اتخاذ القرار السياسي كما يخشى «أفلاطون»؟ يبدو أن وفاة «سقراط» تؤكد ذلك، لكن ليس من الواضح معنى «أن تكون جيدًا» أو «حكيمًا» في السياسة. ربما كان تشبيه «أفلاطون» لنظام الحكم بالسفينة معيبًا أيضًا: هل فن الحكم حقًا مهارة مثل الملاحة أو طب الأسنان أو النجارة، بحيث يتطلب خبيرًا للاضطلاع به؟ لعل «جان جاك روسو» (Jean-Jacques Rousseau 1712 – 1778) كان على حق عندما أخبرنا أن الديمقراطية فكرة جيدة، لكنها مهمة صعبة للغاية لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تحقيقها من الناحية الواقعية: «لو كان هناك شعب من الآلهة، لكانت حكومتهم ديمقراطية، إن الحكومة المثالية ليست للبشر»!

بحلول القرن الخامس عشر، تكيفت هذه القصة الرمزية مع السياق المسيحي. أصبحت «سفينة الحمقى» صورة للبشرية عمومًا: سفينةٌ تُبحر، على ما يبدو دون رعاية، نحو «جنة الحمقى» بدلًا من التركيز على الوصول إلى «جنة الله» السماوية. هذا ما عبَّر عنه الأديب الألماني «سيباستيان برانت» (Sebastian Brant 1458 – 1521) سنة 1494، حين نشر كتابًا شعريًا تحت عنوان «سفينة الحمقى» (بالألمانية «داس نارينشيف» Das Narrenschiff، وباللاتينية «ستولتيفيرا نافيس» Stultifera Navis).

كان «برانت» باحثًا في الإنسانيات وقوميًا ثقافيًا ألمانيًا قويًا، وكان يتطلع إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة لحماية أوروبا الغربية من المد التركي العثماني، وتوفي مع بدايات حركة الإصلاح الديني التي اندلعت في ألمانيا سنة 1517، عندما ثبت «مارتن لوثر كينج» (Martin Luther King 1483 – 1546) أطروحاته (خمس وتسعون رسالة) على باب كنيسة فيتنبرج. وقد نُشر كتابه أولًا بالألمانية، ثم تُرجم إلى اللاتينية سنة 1497، وكان من أكثر الكتب مبيعًا في عصره، كما تُرجم بعد ذلك إلى لغات عدة وحقق نجاحًا هائلًا في أنحاء أوروبا جميعها، شمالها ووسطها.

جاء كتاب «برانت» الشعري في صورة قصيدة أخلاقية (تُبحر عبر أبياتها سفينة مُحملة بالحمقى إلى «ناراجويا» Naragonia، أو جنة الحمقى)، وتصف كثرةً من الحماقات والرذائل التي يرتكبها حمقى مختلفون على متن السفينة. وكل حماقة أو رذيلة في الكتاب تأتي مصحوبة بنقشٍ مفصل بدقة يعطي إما تفسيرًا حرفيًا أو استعاريًا لتلك الحماقة أو الرذيلة. وبتعداد هذه الحماقات، سخر «برانت» من القضاة والسياسيين ورجال الدين والأكاديميين والتجار في عصره، إذ ازدحمت بهم السفينة حتى هلكت! كان من المفهوم في ذلك الوقت أن الحمقى، الذين يحبون على ما يبدو ارتداء قبعات مدببة كوميدية في الرسوم التوضيحية المختلفة للكتاب، يتوافقون مع أشخاص معروفين أو مؤثرين في الكنيسة الأوروبية أو الحكومة أو التجارة أو الحياة العامة، ولا شك أن تجرؤ الكتاب على مواجهتهم أهدافًا قوية بسبب طرقهم الحمقاء أو غير الأخلاقية يُفسر شعبيته لدى مستويات القراء كافة في المجتمع الأوروبي وقتئذٍ.

أعطى كتاب «برانت» -شأنه في ذلك شأن كتاب «في مديح الحماقة» (The Praise of Folly 1511) للفيلسوف الهولندي «إيراسموس» (Erasmus)- دفعةً قوية لآلات الطباعة التي اخترعها «يوهان جوتنبرج» (Johannes Gutenberg) حديثًا، إذ أدت نسخة معدلة باللغة الإنجليزية كتبها الشاعر ورجل الدين الإنجليزي «ألكسندر باركلي» (Alexander Barclay 1476 – 1552)، ونُشرت سنة 1509، إلى زيادة شعبية الكتاب بإضافة أبيات جديدة تسخر من المشاهير البريطانيين، وتُقدم أمثلة ملموسة على حماقة محبي الكتب الذين يجمعون الكتب لكنهم لا يتعلمون منها شيئًا، والقاضي الفاسد والمرتشي ومعدوم الضمير، والمُفكر الأحمق العجوز الذي يُعزز الزمن حماقته، وأولئك الذين يتوقون إلى اتباعه، والكهنة الذين يستغلون دور العبادة لتزييف وعي البسطاء، إلخ. كذلك ألهمت طبعات مختلفة من الكتاب فنانين مثل الرسام الألماني «ألبريخت دورر» (Albrecht Dürer 1471 – 1528)، الذي أصبحت صوره المحفورة على الخشب لقارب مكتظ بالحمقى ذات شهرة واسعة، والرسام الهولندي «هيرونيموس بوش» (Hieronymus Bosch 1450 – 1516) الذي جسَّد في إحدى لوحاته فكرة كتاب «برانت». كما يُعتقد أن لوحة «حفلة موسيقية في البيضة» (The Concert in the Egg)، التي رسمها أيضًا «هيرونيموس بوش»، مستوحاة من نقوش دورر الخشبية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سفينة الحمقى!

لوحة «سفينة الحمقى» (هيرونيموس بوش)

Source: https://www.meisterdrucke.nl/fijne-kunsten-afdruk/Hieronymus-Bosch/25490/The-Ship-of-Fools.html

بعد أربعة قرون ونصف، أعادت الروائية الأمريكية «كاثرين آن بورتر» (Katherine Anne Porter 1890 – 1980) الاستعارة القديمة إلى الحياة مرة أخرى، عندما كتبت رواية بعنوان «سفينة الحمقى» سنة 1962. ومثل رواية «برانت»، حققت رواية «آن بورتر» نجاحًا تجاريًا هائلًا واحتلت المرتبة الأولى في قائمة أكثر الكتب مبيعًا.

تدور أحداث هذا الكتاب على متن سفينة ألمانية فاخرة تُبحر من المكسيك إلى أوروبا في الثلاثينيات من القرن الماضي، تمامًا عندما بدأ حزب هتلر النازي في تهديد الديمقراطية الضعيفة في جمهورية فايمار. وتتضمن قائمة ركاب هذه السفينة كلًا من اليهود والنازيين، إلى جانب عدد من أصحاب النفوس غير المستقرة، والعشاق الغاضبين، والمنعزلين، ورجال الأعمال المدمرين، والأطفال المتمردين، وشخص صغير حكيم يقضي حياته في عبور المحيط ذهابًا وإيابًا، كأنه يبحث عن المنزل الذي لم يعثر عليه قط!

تمضي الرواية عبر انسحاب الركاب غير المجدي من حياة خيبة الأمل بحثًا عن مدينةٍ فاضلةٍ ما، دون معرفة ما يجب عليهم بعد ذلك. وهكذا ينطلقون في رحلةٍ طويلة إلى أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية، عالم من التحيز والعنصرية والشر: السيدة «تريدويل» (Treadwell)، مطلقة أمريكية تشعر بالحنين إلى الماضي، وتأمل أن تجد السعادة في باريس، حيث أمضت شبابها ذات يوم، «إلسا لوتز» (Elsa Lutz)، الابنة البسيطة لمالك فندق سويسري، تعتقد أن الجنة قد تكون في جزيرة وايت (Isle of Wight)، «جيني» (Jenny)، فنانة، تقول إن أخطر لحظة وأسعدها في حياتها كانت عندما كانت تسبح بمفردها في خليج المكسيك، في مواجهة سرب من الدلافين. وفي نهاية الرواية، يشعر أحد موسيقيي السفينة، وهو صبي يتضور جوعًا، بسعادة غامرة لخروجه أخيرًا من السفينة والعودة إلى وطنه، كما لو كانت ألمانيا إنسانًا، وصديقًا جيدًا وعزيزًا موثوقًا به! وهكذا تتمكن «بورتر» من إيصال أن الخلاص حقيقة، وأن بإمكاننا التغلب على الشر!

يقال إن «كاثرين آن بورتر» أمضت ثلاثين عامًا في كتابة رواية «سفينة الحمقى»، مستندة في ذلك إلى ذكرى رحلة بالقارب عاشتها بنفسها سنة 1931. وقد تحولت الرواية الشعبية إلى فيلم ناجح سنة 1965 من إخراج «ستانلي كرامر» (Stanley Kramer). وفاز الفيلم بجوائز الأوسكار لأفضل ديكور فني للإخراج الفني بالأبيض والأسود، وأفضل تصوير سينمائي بالأبيض والأسود.

أخيرًا، كلما قرأت عن سفينة الحمقى قفز إلى ذهني عالمنا المعاصر، العربي وغير العربي، وإن كان عالمنا العربي أشد إصرارًا على الإبحار بسفينة الحمقى نحو الهاوية! تريد أن ترى سفينة الحمقى؟ حسنًا، تأمل فضاء الحمقى في وسائط التواصل الاجتماعي، حيث حق الكلام والجدل والتمظهر والهيافة مكفول لفيالق من الحمقى، تأمل الفضائيات ووسائل الإعلام على اختلافها، حيث تزدهر منابر صناعة الحماقة وتسويق الحمقى وأكاديمياتها، تأمل مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا وشوارعنا، وسترتسم أمامك لوحة شديدة الوضوح لجحافل الحمقى على سفينة تُبحر إلى اللا شيء!

المشكلة ليست في الديموقراطية أو الدكتاتورية أو غيرهما من نُظم الحُكم، فكم من «سُقراط» حوكم وقُتل، أو قُتل دون محاكمة، تحت رايات أنظمة مختلفة، وكم من «سقراطٍ» كُمم فاه فلم يستطع أن ينبس ببنت شفة، وكم من «سُقراط» حُورب ونُفي ومات كمدًا لأنه فقط فضح الحماقة! المشكلة في الحماقة، وفي دفاع الحمقى عن حماقاتهم، أيتها الحماقة.. كم أبغضك!

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

لقد كان سقراط ذكيا!

نظام التفاهة .. كتاب أثار جدلًا كبيرًا

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية