سارق ومسروق – الوجه السادس والثلاثون
أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"
ارتجف السارق، وانكمش في ذاته حتى صار خيطا يهتز، بوسع نسيم البحر الساري أن يدفعه إلى الصحراء، حيث القحل والتيه والحر الشديد، ثم عاد إلى عيني محدثه مستسلما، وسأله:
ـ ماذا تريد مني؟
ابتسم وهو ينظر في عينيه ليعريه أكثر، وقال:
ـ أريد أن أنصحك.
هز رأسه، وقال:
ـ حلو، أنا أسمعك.
قهقه وقال:
ـ لا يسمع مني إلا من يدفع.
ارتبك قليلا، فهو اعتاد أن يأخذ ولا يعطي، لكنه مسك زمام نفسه، وسأل بالطريقة التي يجيدها:
ـ كم تريد؟
رد العراف على الفور:
ـ قليل على غيرك، كثير عليك.
فهم ما يقصده، فقال:
ـ سأعطيك ما يرضيك.
عندها قال له والابتسامة تكسو وجهه:
ـ يرضيني ثمن ما سرقته من المسروق الأول.
نظر إليه في غضب، وسأله:
ـ كل هذا؟
فرد في ثقة:
ـ أردت فقط أن أثبت لك أنني أعرف كلما سرقته، لكن لا تشغل نفسك بما تدفعه لي.
أدرك أنه قد وقع في فخ من نوع جديد، وليس أمامه سوى أن يسايره، فقال:
ـ ما تطلبه هو لك.
رد العراف على الفور:
ـ ادفع وستسمع.
أدخل يده في جيبه، وأخرج ما فيه، وراح يعد الأوراق النقدية… فسأله العراف:
ـ إن قلت لك كم جنيهًا معك تعطيني ما في جيبك؟
لم يجد نفسه، وعلى النقيض من كل سابقاته، يجيب:
ـ نعم، نعم.
وقال له:
ـ في جيبك الآن ألف جنيه، لطوارئ الشاطئ، أما ما في الشاليه فلديك تسعة عشر ألفا.
ولأن الرقم كان صحيحا، فقد استسلم وقال:
ـ بم تأمرني؟
ابتسم وقال له:
ـ أريد ما في جيبك فقط.
رد متهللا:
ـ بسيطة.
لكنه فوجئ بما ليس بسيطا، إذ قال له في صرامة:
ـ لا عيش هانئا لك إلا بعد أن تعيد للمسروقين ما أخذته.
نظر إليه في استخفاف، ومد يده في جيبه وأعطاه كل ما فيه، ثم أشاح بوجهه عنه، وقال:
ـ لك هذا، ولا تسأل عما لغيرك.
ثم قرب مقعده منه، حيث رفعه من الرمل إلى الرمل، وقال له:
ـ لم آخذ سوى ما لي.
نظر إليه العراف مبتسما في استهانة، وقال:
ـ هذا ما تتوهمه، لكن الحقيقة شيء آخر.
سأله في فزع:
ـ وما الحقيقة في رأيك؟
أجابه:
ـ الحقيقة ليست في رأي أحد، إنما هي في حد ذاتها كذلك.
شعر السارق أنه قد انزلق إلى نقاش ليس له فيه تمكن ولا قدرة، مثلما توهم دوما، حين كان يقيم حججه الواهية على المؤتمرين بأمره، فيهزون رؤوسهم صامتين، فيظن أن هذا يعبر عن اقتناعهم التام بما يرى. نظر إلى العراف، الذي كان في هذه الآونة يتمتم بكلمات غريبة، وقال:
ـ ما تطلبه نافذ.
أخذ العراف وجه السارق بين يديه، وقال له، بينما السارق يتملص منه ناظرا إلى هناك، حيث يجلس ابنه وبنته وامرأته غير منتبهين سوى للبحر، فلمَّا اطمأن إلى أنهم جميعًا قد صاروا لاهين عنه للموج والنسيم، قال له:
ـ أريد أن أعرف ما سيأتي؟
تركه، وابتعد عنه قليلا، وقال:
ـ لن يأتيك النوم، وراحة البال إلا بأن تعيد لكل من سرقتهم ما لهم.
تركه العراف مبتعدًا فوق الرمل والرذاذ الذي يتضاءل كلما فارق الشاطئ ماءه، وهو يتمتم:
ـ في نفس هذا المتعجرف ظلام، لن يذهب إلا إذا أقر بأن ما هو فيه ليس له، وسلم بأن الذين يكدحون في كل مكان غير الرمل لهم المكانة الأولى، لأنهم حقا صناعة كل ما جعل هذا البلد مستمرا إلى الآن، وسيظل.
وكان ما يدور في ذهن العراف يصله، فراح يتضاءل في مقعده، حتى شعر أنه مجرد كتلة غبية من لحم ودم، أجلسوها فوق كرسي ليس لها سلطان عليه، وإن ادعت أن معها كل مفاتيح النفوس والعقول والقلوب التي ترضى بكل قبيح، وتقول في ثقة متناهية:
ـ ليس في الإمكان أبدع مما كان.
اقرأ أيضاً:
الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع، الوجه الخامس
الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع ، الوجه العاشر
الوجه الحادي عشر، الوجه الثاني عشر، الوجه الثالث عشر، الوجه الرابع عشر
الوجه الخامس عشر، الوجه السادس عشر، الوجه السابع عشر
الوجه الثامن عشر، الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون، الوجه الحادي والعشرون
الوجه الثاني والعشرون، الوجه الثالث والعشرون، الوجه الرابع والعشرون
الوجه الخامس والعشرون، الوجه السادس والعشرون، الوجه السابع والعشرون
الوجه الثامن والعشرون، الوجه التاسع والعشرون، الوجه الثلاثون، الوجه الحادي والثلاثون
الوجه الثاني والثلاثون، الوجه الثالث والثلاثون، الوجه الرابع والثلاثون، الوجه الخامس والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.