يقول المؤرخون إن دكتور فاوست شخصية حقيقية تاريخية، عاشت في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وكان دجالًا مشعوذًا، استطاع أن يقنع كثيرين بأنه ساحر يستطيع معالجتهم من الأمراض وتحقيق أمانيهم ورغباتهم، وهكذا راح يبتز أموال الناس بدعوى قراءة الطالع وزعم علاج الأمراض، ثم وُجَد مقتولًا قتلة فظيعة عام 1540م، فنسبوا قتله إلى الشيطان، وبهذا وُلِدت أسطورة فاوست وانتشرت.
تشبَّع بها “جوته” وغيره من الكتاب والأدباء، فتناولها كثير من أدباء أوروبا على مر العصور، وذلك لما تتضمنه من دراما قوية حول صراع الإنسان بين الخير والشر وبين إطاعته لله أو انصياعه للشيطان، وكان ممن تناولوها الشاعر الإنجليزي كريستوفر مارلو والشاعر الفرنسي روتبيف والكاتب الألماني غوتهلد إفرايم لسنج.
من هو فاوست
لكن جوته أهم شعراء وفلاسفة ألمانيا، تناول هذه الأسطورة في عمله الشهير فاوست، الذي هو عبارة عن رواية شعرية ملحمية، تحكي أن الشيطان استأذن الرب في إغواء الدكتور فاوست، وهو أستاذ جامعي ألماني كيميائي اسمه بالكامل يوهان جورج فاوست، رجل صالح ومثالي يتفانى في عمله وعلمه، وقد ورث عن عمه ثروة كبيرة وتعلم كثيرًا من العلوم.
لكن بمرور السنين ومضي العمر يستيقظ دكتور فاوست على حقيقة أو على اعتقاد أن العلم لم يفده شخصيًا، ولم يحقق له السعادة التي ينشدها كل إنسان، وهكذا شعر بالندم على سنوات شبابه التي أضاعها سدى دون أن يستمتع بها، فظهر له الشيطان “مفستوفيليس” ليقايض روحه وجسده بأربع وعشرين سنة من السعادة والاستمتاع.
كان الشيطان قبلها قد راهن الرب على أنه يستطيع غواية فاوست رغم أنه شخص فاضل وصالح، فأذن الرب له بمحاولة إغوائه، وجاء الشيطان إلى فاوست في لحظة كان فيها قد يئس من كل شيء، فما جدوى العلم وهو محروم من الزوجة والأولاد والحبيبة؟
أول من باع نفسه للشيطان
جهز السم ليقتل نفسه، لكن الشيطان الذي وصل في لحظة حاسمة خطف السم من يده ليمنعه من الموت، وذلك حتى يتمكن من إغوائه، وعرف فاوست أنه الشيطان وأنه جاء ليتفق معه على أن يمنحه كل ما يشتهي من الدنيا بشرط الحرمان في الآخرة، فقال له فاوست إنه أصلًا لا يؤمن بالآخرة والنعيم والعذاب، وهكذا تم بسهولة الاتفاق على أن يعطيه الشيطان الدنيا في مقابل الآخرة، وسنرى كيف سيحوله بذلك إلى قاتل وشرير وشهواني.
كان أول ما طلبه فاوست أن يعود شابًا، وكان فاوست قد لفتت نظره فتاة جميلة في سن المراهقة اسمها مارجريت، وعندما أراد أن يكلمها في الطريق صدته فظن أن ذلك بسبب تقدمه في العمر، فوقع في غرام الفتاة وتعلق بها كما يتعلق كل إنسان بالشيء الذي يستعصي عليه الوصول إليه، وكان يرى فيها مثالًا للجمال والطهر والنقاء، ولهذا طلب من الشيطان أن يعيد إليه شبابه وأن يجعله وسيمًا لينال قبول تلك الفتاة مارجريت.
الاتفاق الشيطاني
ذهب به الشيطان إلى ساحرة عجوز في بيتها الفقير الكريه الرائحة وثيابها المهلهلة، حيث قرودها الذين يخدمونها يتكلمون مثل البشر ويتسولون من فاوست والشيطان ليأكلوا من شدة الفقر والجوع، وجاءت الساحرة فلبت طلبهما وأعادت إلى فاوست شبابه، كما منحه الشيطان هدية من المجوهرات ليعطيها للفتاة ليسهل عليه إغواؤها.
كانت مارجريت فقيرة فانبهرت بهديته كما انبهرت بشبابه ووسامته فوقعت في غرامه، حتى أنها قبلت مواعدته في بيتها، لكن ولكي يخلو لهما الجو كان عليها أن تبعد أمها بطريقة ما، فكانت حيلة الشيطان بدس العقاقير المنومة للأم في مشروب تشربه فتنام فيخلو الجو للعاشقين، ثم أوحى الشيطان إلى فاوست بأن يزيد من الجرعة المخدرة فماتت الأم.
هكذا فقدت مارجريت كل ما تبقى لها من طهر وبراءة بقتل أمها بعد التفريط في شرفها مما سلمها إلى التعاسة والضياع، ثم استمرت مرحلة القتل والتدمير والإغواء، فصار فاوست بسبب هذا الاتفاق الشيطاني ينتقل من قتل إلى قتل ومن شر إلى شر.
ملخص رواية فاوست
رواية فاوست قالب روائي شعري للفلسفة التي هي الأساس، لكن ما دام جوته قد صاغها في قالب روائي فكان عليه أن يحكم هذا القالب ولا يخرجه مليئًا بالثغرات والتناقضات، فكيف يرى الرب والشيطان أن فاوست رجل صالح ولهذا اختاره الشيطان لإغوائه، ثم نكتشف أنه لا يؤمن بالآخرة وأنه يستعد لقتل نفسه؟ وهل يقتل الرجل الصالح المؤمن نفسه؟
ثم كيف يذهب الشيطان لإغوائه فينقذه من لحظة يأس كان فيها يحاول قتل نفسه بالسم؟ ماذا يريد الشيطان أصلًا من غواية الناس أسوأ من أن يوصلهم إلى اليأس وقتل النفس ليخلدوا في الجحيم؟ وإذا كان فاوست قد قبل عرض الشيطان بمنتهى السهولة فاشترى الدنيا بالآخرة دون أي تردد ونقاش، فكيف يكون مع ذلك رجلًا صالحًا؟ ولماذا الساحرة وقردتها شديدة الفقر وهي تعيد الشباب إلى الناس، وكان بمقدورها بهذه الموهبة أن تكون أغنى البشر إذا تقاضت الثمن؟ ولماذا وهي عجوز لا تعيد الشباب إلى نفسها بينما تعيده إلى الناس؟
لماذا لا يؤمن فاوست بالله وهو يرى الشيطان ويكلمه، كما أن الشيطان أراه الجنة والنار بعينيه بناء على طلبه؟! وهكذا وجدتني طول الوقت غير مقتنع، والغريبة أن النقاد على مر التاريخ يعتبرون فاوست أهم أعمال جوته وأن جوته نفسه أهم فلاسفة وشعراء وكتاب ألمانيا!
لكن لماذا نجحت الرواية رغم ذلك؟
سر نجاح رواية فاوست
قد تقرأ تحليلًا بسيطًا مثل أن: “المغزى من قصة فاوست الذي أراد الكاتب إيصاله لنا أن الإنسان يجب عليه أن يعيش شبابه في حالة من التوازن، فلا يطغى التعليم على الاستمتاع بفترة الشباب التي تعدُّ من أجمل مراحل حياة الإنسان، وألّا تكون هذه المرحلة هباءً، فيضيعها الإنسان في الملذات وتكون حياته التعليمية المهنية غير جيدة لعدم حصوله على التعليم الكافي الذي يجعله قادرًا على مجابهة صعوبات الحياة”.
كما يُستفاد من هذه القصة أن الشيطان يسعى دائمًا إلى تزيين الأعمال السيئة للإنسان كي يقترفها على نحو من الرضا ويستلذ بها، لكن الإنسان الراشد يحاسب نفسه في النهاية، ويعود إلى صوابه ويحارب من أجل الأشياء التي أحبها في هذه الحياة، لكن مشكلة هذا التلخيص أنه يقدم لك معاني بسيطة وردت كثيرًا في الأعمال الأدبية والدراما السنيمائية والتليفزيونية، ولذلك فمن الصعب أن ينبني عليها عمل يتصف بصفة الخلود الفني إن صح التعبير مثلما حدث مع رواية فاوست.
الأرجح أن نجاح الرواية سببه الإثارة والدرجة العالية من الخيال الكامنة في فكرة: “كيف ستدور الأحداث إذا اتفق إنسان مع الشيطان على أن ينال السعادة والمتعة المطلقة في مقابل أن يعمل الشر المطلق بلا حدود ودون عقاب؟”، وليس هذا فقط فامتزاج هذه الفكرة المثيرة بالقيمة الشعرية في الرواية كان له درو كبير في نجاحها وبقائها كل هذا الزمن أنها واحدة من أهم الأعمال الأدبية العالمية.
مقالات ذات صلة:
رواية تتخيل مبارة كرة قدم بين مصر وإسرائيل
رواية الخيميائي .. لماذا كل هذا النجاح؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا