فن وأدب - مقالاتمقالات

أعراض انسحاب

عُدته بُحكم قرابة بعيدة تربطني به، هو رجل يقترب من عقده الثامن، أُحيل إلى التقاعد من سنوات بعيدة، يكتفي بنفسه ويميل إلى العزلة، يأنف أن يتحدث عن حياته الخاصة. حينما ذهبت إليه كان يستلقي على سريره وقد أثقله المرض، غير أنه هشّ لرؤيتي، ورحّب بي.

يقيم في شقة من غرفتين، خالية من الأثاث غير سرير بغرفة نومه، وصندوق خشبيّ قديم يتّخذه كدولاب لحفظ ملابسه وأشياء أخرى. بينما الغرفة الأخرى دائمًا مغلقة، لا أعرف ما بداخلها وإن كنت أظن أنها بائسة كحاله.

جدار الذكريات

كذا هناك بضعة إطارات موضوعة بجوار بعضها على جدران حجرته، بكل منها صورة قديمة باللونين الأبيض والأسود، لأشخاص واضحة ملامحهم إلى حد ما. منهم المبتسم، آخر متجهم وثالث مائعة ملامحه فلا تعرف إن كان سعيدًا أو غير ذلك. تلك معظم ثروته في الحياة، كل ما خرج به من دنياه.

قلت له وأنا أتأمّل الصور: “لا شك أنهم ماتوا جميعًا، فسمات الوجوه الهادئة هذه، الهندام الذي يبدو عليه كل منهم، يشي أنهم عاشوا في زمن غير ما نحيا الآن، لكن لاحظت أن كلهم شباب، أقصد في ريعان شبابهم، فليس من بينهم كهل أو شيخ!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فقال لي بعدما نهض من سريره النحاسي العتيق وجلس نصف جلسة: “معلّقة منذ سنوات بعيدة على الحيطان، من عجب أنك لم تلاحظهم إلاّ اليوم! بالفعل ماتوا.

العم سعيد

عبارات عن ذكريات الماضي الجميل 1 - أعراض انسحاب

هذا الذي على اليمين، عمي سعيد، مات في هزيمة يونيو، قيل أنه لم يُطلق من بندقيته طلقة واحدة، إن طيران العدو فاجأهم، فانسحبوا وتركوا وراءهم عتادهم، إنه مات عطشَا في صحراء سيناء، سمعت هذا من معاصريه ممن نجوا من الهلاك”.

فاقتربت أكثر من الصورة، قلت بدهشة: “لكنه الخالق الناطق عم جِلجِل بائع الجرائد، ذلك الذي مات من بضع سنين فقط، الشبه كبير جدًا!”.

أعرض عن تدخلي في حديثه، قال: “الذي يجاوره أخوه، عمي الآخر، مات قبل أن يتم العشرين من عمره في حرب اليمن، تنطبق عليه مقولة ذهاب بلا عودة، دُفن حيث لا نعرف، لا تعلم الدولة نفسها أين بقايا رفاته”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أومأت برأسي وأنا أقف أمام الصورة، قلت بهمس: “غير أنه يشبه كثيرًا محروس العجلاتي بمنطقة دحدورة هدى، كان سمجًا رحمه الله، سليط اللسان، سريع الغضب، على رغم أن مهنته كانت تأجير وإصلاح الدراجات للأطفال، إلاّ أننا كنا نخشاه ونفر منه إلى غيره .لكنه مات بشيخوخته أيضًا من قريب!”.

الجد والأخ الأصغر

فأشاح الرجل بعيدًا عني برأسه، عقّب: “وهذا الذي يليه، أقصد الصورة التالية هي لجدي رحمه الله بصدر شبابه، تزوج والتصق بالأرض سنوات، ثم لبَّى نداء الوطن في حرب  48، مات ودُفن هناك، لكنّا لا نعلم إن كان أطلق رصاصة من سلاحه على العدو أم لا، هل غافلوه كما فعلو بابنه من بعده؟! قُتل هناك وترك عائلته، زوجة وثلاثة صبية”.

فقلت: “هو شهيد بإذن الله، مع الأبرار و..”، وقبل أن أكمل الديباجة الشهيرة، قاطعني بحدة: “لست أحب أن أسبغ ألقابًا دون سند شرعي على أحد، هو مات في الحرب وكفى”.

فقلت بدافع تغيير دفّة الحديث: “لكنه قوي الشبه أيضًا بعم قطب البقّال، ذاك الذي يقع دكانه على أول الشارع، أتذكره حتى الآن، لكنه يا مولانا مات ميتة طبيعية، هلك بالشيخوخة وأمراضها”.

لم يكن الشيخ يُنصت إليّ، بل يمعن التطلع للصور الملتصقة على الحائط أمامه، اتكأ بجزعه  على شباك السرير، أشار بشماله وقال: “هذا أخي الأصغر، مصطفى، مات غيلة في حرب أكتوبر،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عرفت وقتها أنه ممن عبروا في الموجة الأولى للضفة الأخرى من القناة، إنه رأى بعينيه تباشير النصر، شَهِد تحرير جزء من الأرض التي بارك الله حولها، غير أن رؤيته اقتصرت على ذلك، فلم نسمع عنه بعدها أبدًا، غير شهادة تكريم، زقاق ضيق على مدخله لافتة تحمل اسمه على استحياء.

تشابه الوجوه

ما هي الذكريات - أعراض انسحاب

تأسّفت لمصاب الشيخ وقلت: “الدوام لله، هكذا الدنيا، أناس يموتون من أجل آخرين يحيون، يرتعون من الدنيا حتى الثمالة، لم أعهد أن من يبذر بذرة شجرة سامقة يجني ثمارها. لكن من عجب أن أخاك هذا أيضًا يشبه زميل عمل، أمين عهدة يعمل معي يلازمني كظلي، يقترب من سن المعاش الآن!”.

ثم التفت للجدار من جديد، أشرت بسبابتي اليمنى إلى صورة وقلت: “فمن هذا يا سيدي؟ كأني رأيته، بل أقسم أني أعرفه حق المعرفة! أراه يشبه أحدهم بشدة، أجزم أن الشبه كبير، لكن يختلط الأمر عليّ، تُرى متى وأين رأيته؟”.

عصرت ذاكرتي ما وسعتني قدرتي غير أنني عجزت عن تذكّره. فأنهيت الزيارة على عجل، بعدما تمنّيت دوام الصحة والعافية للشيخ، مع وعد وقَسَم منّي بزيارته قريبًا مرة أخرى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خرجت للهواء الطلق وعقلي يرتج بشدة، الصور تتداعى أمام عينيّ، تتداخل صورة الإطار الرابع مع خيالات وأشباح لعشرات بل مئات الشباب الغادي والرائح.

اقرأ أيضاً:

اللهو الخفي

صورة وألف معنى

عشرة أضعاف

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمود حمدون

قاص و روائي

مقالات ذات صلة