الكون الغامض واحتمالات المستقبل
حتى وقت قريب لم يكن بمقدور علماء الفلك تحديد الأرقام التي يمكن بها قياس حجم الكون، فما شمسنا سوى واحدة من مئات المليارات من النجوم التي تحفل بها مجرة درب التبانة (Milky Way)، وما مجرة درب التبانة بدورها سوى واحدة من مئات المليارات من المجرات المتناثرة في أرجاء الفضاء الكوني إلى حدود ما تدركه أجهزة الرصد المُتاحة لنا. أما الفجوات بين النجوم فشاسعة للغاية، حتى إن علماء الفلك يقيسونها بالسنوات الضوئية.
السنة الضوئية ببساطة هي المسافة التي ينتقل بها شعاع الضوء في الفراغ في سنة واحدة، ومن المهم التشديد على الفراغ، لأن الضوء يتباطأ أثناء مروره عبر أي نوع من أنواع المادة (ففي الماء مثلًا تتباطأ سرعة الضوء بنحو خمسة وعشرين في المائة)، ومعظم الكون في الحقيقة فراغٌ شبه مثالي، لذا يمكن للفلكيين عمومًا افتراض أن الضوء يتحرك بسرعته القصوى، ما يعني أن الضوء يسافر بسرعة قدرها 299،792،458 مترًا في الثانية، وبضرب هذا الرقم في عدد الثواني في السنة: 31،557،600، نحصل على الإجابة: السنة الضوئية الواحدة هي 9،460،730،473،000 كيلومتر، أي بالتقريب عشرة تريليونات كيلومتر. ونظرًا لأن الضوء يتحرك بهذه السرعة المحدودة، فإن كل ما تشاهده قد عفا عليه الزمن، نظرتك للعالم في الواقع صورة لما بدت عليه الأمور في اللحظة التي بدأ فيها ضوؤها في السفر نحوك!
على نحوٍ تمثيلي أقرب، يبعد القمر عن الأرض نحو ثانية ضوئية واحدة، وتبعد الشمس عن الأرض أكثر من ثماني دقائق ضوئية بقليل، ويبلغ عرض مجرة درب التبانة نحو مائة ألف سنة ضوئية، وتقع مجرة أندروميدا (Andromeda) –الجارة الأقرب لمجرة درب التبانة– على بعد 2.5 مليون سنة ضوئية، فيما تقع أبعد المجرات التي صورها تلسكوب الفضاء “هابل” على بُعد يزيد عن عشرة مليارات سنة ضوئية! كيف يمكن إذن النظر إلى الكون كله في ضوء مقولة اللا تناهي؟
لقد افترض “إسحق نيوتن” (Isaac Newton 1643 – 1727) وفقًا لقانونه العام في الجاذبية أن الكون سطح مستوٍ له ما يشبه المركز. وحول هذا المركز ترتفع كثافة المادة لتبلغ أقصى مقدار لها، ثم تأخذ في التناقص تدريجيًا كلما ابتعدنا، إلى أن تتلاشى تمامًا بعد أبعاد شاسعة ليتلوها فراغٌ لا نهائي. ومعنى هذا أن الكون المادي ما هو إلا جزيرة منتهية في محيط لا متناهٍ من الفضاء، وأن الضوء الصادر عن النجوم لا بد وأن يخرج باستمرار إلى الفضاء اللا متناهي دون رجعة، وكذلك بعض المجرات، الأمر الذي يحمل تأكيدًا بالفناء التدريجي والمنتظم للمادة الكونية.
مثل هذا التصور لا يتفق في الحقيقة ونتائج الملاحظات والبحوث الفلكية الحديثة، تلك التي تؤكد أن الكون “مُوحد الخواص” في كل الاتجاهات، بمعنى أن المادة موزعة توزيعًا متسقًا في كافة أرجاء الكون، فلا أفضلية لجهةٍ دون أخرى من حيث كثافة المادة.
حقًا إن كل المجرات –فيما عدا المجرات التي تجاورنا مباشرة، والتي تؤلف ما يسمى بالجماعة المحلية من المجرات– تكشف عن زحزحات حمراء في أطيافها، مما قد يوحي بأن ثمة مركزًا كونيًا تتراجع عنه المجرات، إلا أن هذا التفسير أبعد ما يكون عن الترجيح، إذ إن التمدد الملحوظ للكون يتبدى على أنه متماثل تمامًا، بحيث إنك لو قمت بالملاحظة من أية مجرة، فسوف تشاهد الصورة العامة ذاتها، أي ستبدو كل المجرات وكأنها تتراجع عنك بالذات. ومن المعروف أن ظاهرة الزحزحة الحمراء هي ظاهرة زيادة طول الموجة الكهرومغناطيسية القادمة إلينا من أحد الأجرام السماوية نتيجة سرعة ابتعاده عنا، ومثال ذلك: لو أن نجمًا يتزايد ابتعاده عن كوكب الأرض بسبب تحركه بعيدًا عنا، وكان الضوء الصادر من هذا النجم هو الضوء الأصفر مثلًا، فإن هذا الضوء نتيجة تزايد حركة ابتعاد النجم ينزاح في اتجاه اللون الأحمر.
ليس هناك إذن مركز وحيد للكون، أو “حافة” قابلة للتمييز. ولو كان هناك مركز وحافة، فلا بد وأن نتوقع رؤية تركيز للمادة في اتجاه واحد (صوب المركز)، وترقيقًا للمادة في الاتجاه الآخر (أي صوب الحافة)، فهل يعني ذلك أن الكون أو “متصل الزمان – مكان” لا متناهٍ في الامتداد؟
يجيب “آلبرت آينشتين” (Albert Einstein 1879 – 1955) عن هذا التساؤل بعبارة موجزة فيقول: “الكون متناهٍ، لكنه غير محدود” (Finite but unbounded). وأبسط تفسير لهذه العبارة أن نتصور الكون، لا كسطحٍ مستوٍ كما رأى «نيوتن»، وإنما كسطحٍ كُروي مُقفل، فلو أنك واصلت السير في فضاء “آينشتين” باتجاهٍ واحد فلن تخرج إلى اللا نهاية، بل ستعود إلى نقطة البداية، وستكون حينئذ قد دُرت حول الكون دون أن تصل إلى حافة، فليس للكون حواف أو حدود، لكنه مع ذلك منتاهٍ كسطح الكرة.
لو أننا مثلنا للمجرات بنقاطٍ مُلونة على سطح بالون من المطاط، فإن كل مجرة سوف ترى الصورة العامة ذاتها للكون، ليس الكون ما بداخل البالون أو خارجه، وإنما هو سطحه، ولو أننا نفخنا البالون فاتسع، فإن الانفصال بين المجرات سيزداد بطريقة متماثلة، إذ تتحرك كل مجرة مبتعدةً عن الأخرى، لكن أيًا منها لا تستطيع الزعم بأنها مركز هذا التوسع، لأن ما يتسع أو يتمدد هو “متصل الزمان – مكان” ذاته، أو بعبارة أدق هي “الطبقة التحتية” (Sub-stratum) الحاملة للمادة الكونية.
بهذا التفسير تخلص آينشتين من مقولة اللا تناهي بكل ما تحمله من صعوبات علمية وفلسفية، وبات من اليسير أن ندرك بدايةً محددة لمتصل الزمان – مكان، فإذا كان الكون الكروي المقفل آخذًا على ما يبدو في التوسع، فمن المعقول إذن أن نفترض أن كل المجرات كانت في وقتٍ ما من الماضي متلاصقة بعضها مع بعض. وإذا تتبعنا الأمر إلى أبعد من ذلك، فلا بد وأن مادة الكون بأكملها كانت مُركزة في كرةٍ نارية شديدة الحرارة من المادة والإشعاع، وفي لحظة ما، واجهت هذه الكرة انفجارًا هائلًا (Big Bang) كان هو البداية لمتصل الزمان – مكان. ولا جدوى من التساؤل عما حدث قبل الانفجار الهائل، لأنه يبدو أن الزمان والمكان بالمعنى الذي نستخدم به هذين المصطلحين لم يكونا موجودين ببساطة قبل هذه اللحظة.
يحظى هذا الفرض المُفسِر لنشأة الكون، والمعروف بنظرية الانفجار العظيم، بقبولٍ واسع النطاق بين معظم الفيزيائيين والفلكيين في عصرنا الحاضر. وكان الفيزيائي الروسي – الأمريكي “جورج جاموف” (George Gamow 1904 – 1968) هو أول من صاغ هذا الفرض صياغةً واضحة سنة 1948، لكنه ظل مفتقرًا إلى الدليل التجريبي حتى سنة 1965، حين التقط الفيزيائيان الأمريكيان “أرنو بنزياس” (Arno Penzias من مواليد سنة 1933) “روبرت ويلسون” (Robert Wilson 1936 – 2000) بمحض الصدفة، وباستخدام جهاز ضخم لالتقاط الموجات القصيرة، شعاعًا ضعيفًا منبعثًا من الفضاء. وإذ إن هذا الإشعاع لم يكن أشد كثافة في اتجاه الشمس، أو في اتجاه مجرة درب التبانة، فقد استنتجا أنه يمثل بقية من الإشعاع الأصلي الناجم عن الانفجار العظيم. وبهذا الدليل القائم على المعاينة، ثبت فرض “جاموف” بشأن نشأة الكون.
أما عن المستقبل، فتتنازعه عدة افتراضات، نذكر منها أولًا الافتراض القائل بـ”تذبذب الكون” (Oscillating Universe)، فلو أن في الكون مادة كافية، فربما تؤدي القوة الجاذبة المجتمعة للمادة إلى إيقاف التوسع، ثم ارتداده في نهاية المطاف، بحيث ينتج عن ذلك انهيارٌ لكل المادة الموجودة في الكون، فيما قد يصح أن نُطلق عليه اسم “الانكماش العظيم” (Big Contraction). ويوحي هذا الفرض بأن انفجارًا عظيمًا آخر سوف يعقب عملية الانهيار، وأن الكون ربما ظل يتذبذب على هذا النحو بين “انفجارٍ” و”انكماش” إلى الأبد، مما يذكرنا بنظرية الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” (Friedrich Nietzsche 1844 – 1900) في التكرار الأبدي (Eternal recurrence) والزمان المغلق، ومؤداها أن الزمان ليس إلا دائرة مغلقة تتكرر عليها الحوادث دائمًا أبدًا.
على أنه إذا كانت المادة الكونية غير كافية –وهذا افتراضٌ آخر– فسوف يستمر التوسع إذن دون توقف! وهنا قد يبلغ الكون نهايته في “الانسحاق العظيم” (Big Crush) كما بدأ بالانفجار العظيم. ووفقًا للشواهد الفلكية الحديثة يبدو أن الخيار الثاني هو الأقوى، إذ أعلن علماء الفلك الأمريكيون في مطلع سنة 1996، أن صور النجوم المنفجرة التي التقطها التليسكوب الفضائي “هابل” تشير إلى أن الكون قد بدأ يتعرض لبطء في معدل نموه عن طريق التمدد، فيما يمكن أن يكون مؤشرًا على بداية انهياره في عملية الانسحاق العظيم، مع التأكيد في الوقت ذاته أن هذه المرحلة لن تأتي قبل عشرات المليارات من السنين.
ثمة افتراض ثالث، نذكره فقط لقيمته التاريخية، إذ أدى اكتشاف “بنزياس” و”ويلسون” لبقايا الإشعاع الكوني الناجم عن الانفجار العظيم إلى استبعاده قطعيًا من قائمة الفروض القابلة للتحقق. يقضي هذا الافتراض المعروف بنظرية الحالة المستقرة للكون (Steady – State theory)، بأنه لما كانت تطورات الفيزياء النووية تنبؤنا بأن كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت أصلًا نتيجة لتحول الهيدروجين داخل النجوم، فلا بد إذن من أن الكون كله تقريبًا كان مركبًا في البداية من الهيدروجين، وأن هذا العنصر قد تولد، وسوف يظل يتولد تلقائيًا دون توقف، ليبقى الكون مستقرًا إلى ما لا نهاية. بعبارة أخرى، تقضي هذه النظرية بأن الكون يتوسع دائمًا ولكنه يحافظ على متوسط كثافة ثابت، إذ تتولد المادة باستمرار لتشكيل نجوم ومجرات جديدة بالمعدل ذاته الذي تصبح فيه النجوم القديمة غير قابلة للرصد نتيجة لزيادة مسافتها وسرعة ابتعادها. وليس للحالة المستقرة بداية أو نهاية في الزمن، ومن أية نقطة بداخلها تبدو النظرة على المقياس الكبير (أي متوسط كثافة المجرات وترتيبها) هي ذاتها.
أخيرًا، ومهما يكن من أمر، يبدو من الأفضل، بل ومن الأبسط، أن نُقر أولًا وأخيرًا بسلطان الإرادة الإلهية، وبقدرة الله اللا محدودة على الخلق والإفناء وقتما شاء، وكيفما أراد. وإلى هذه النتيجـة ينتهـي الرياضي والفلكي الإنجليزي “إدوارد ميلن” (Edward Milne 1896 – 1950) بعد طول تمعـن في الكون المتمــدد، فكتب يقول: “أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل بغير الله”.
مقالات ذات صلة:
هل يمكن أن تكون هناك برمجة إلهية للمخلوقات؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا