فن وأدب - مقالاتمقالات

تعلّم اللغات الأجنبية قديمًا

إن تعلّم اللغات، ليس بالأمر الهيّن أو اليسير، فهو في حاجة دائمة لبذل الجهد والقفز على المعوقات، الزمنية والمالية والبدنية. وحديثًا وقديمًا، وفي كل العصور والأزمان، إذا لم يتوفر حافز جيد وقوي لتعلم اللغات، فلن يسعى الإنسان إلى ذلك.

عند إلقاء نظرة سريعة جدًا وموجزةً عن تعلّم اللغات في الحضارات القديمة، وهل كان يهتم أصحابها بهذا الأمر، نجد أن اليونانيين الأقدمين، لم يدرسوا في مدارسهم، ببلادهم اليونان، لغات أجنبية، فقد انكبوا على تعليم وتعلم لغتهم اللغة اليونانية القديمة (Ancient Greek)، ومن ثم فهم من الشعوب الذين يمكن وصفهم بأنهم كانوا شعبًا أحادي اللغة (monolingual)، لم يتحدثوا غير لغتهم فقط، وذلك في الوقت الذى كانت بعض الشعوب المحيطة بهم تتعلم وتتحدث لغتين (bilingual) أو ثلاث لغات (trilingual) على الأكثر.

في اليونان لغة أجنبية واحدة لا تكفي

لكن تجدر الإشارة هنا، إلى أن هذا الأمر، كان قبل القرن الرابع قبل الميلاد، إلا أنه تغيّر في الفترة المعروفة باسم الفترة الهللينستية (Hellenistic age 323-31ق.م)، عندما امتزجت الحضارة اليونانية بالحضارات الشرقية، مع فتوحات الإسكندر الأكبر، وتوغله في عالم شرق المتوسط. لقد أدرك اليونانيون آنذاك قيمة وأهمية اللغات، وأنها جسر هام للتواصل ومعرفة الآخر.

ذكرت المصادر أن الملكة الهيللينستية، كليوباترا السابعة (Kleopatra VII)، ملكة مصر، كانت خير مثال لليونانيين الذين كانوا يتحدثون أكثر من لغة (polyglot) في أثناء تلك الفترة الهيللينستية. فلقد كانت تتحدث بعشر لغات مختلفة: لغتها اليونانية، وهي اللغة المعروفة باسم اليونانية الشعبية أو العامية “الكويني” (Koine Greek)، واللغة المصرية، والإثيوبية (Ethiopian)، والآرامية (Aramaic)، وكذلك اللغة السريانية (Syriac)، والتروجلوديت (Troglodyte)، والعربية، والميدية (Median)، والفارسية (Parthian)، وكذلك اللغة اللاتينية (Latin).

على إثر ذلك، يمكن القول إنه لم يكن لدى اليونانيين الأقدمين الحافز أو الرغبة في تعلّم اللغات الأجنبية، واكتفوا بلغتهم اليونانية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الهدف من تعلم اللغات الأجنبية عند الرومان

اللغات الأجنبيةلكن الأمر اختلف لدى الرومان الأقدمين أصحاب الحضارة الإيطالية القديمة، إذ أقبلت النخبة الرومانية على تعليم أبنائها اللغات الأجنبية، وكذلك سعى قليل جدًا من عامة الشعب نفس المسعى، محبة ورغبة.

كانت الوجاهة الاجتماعية، وراء سعي الرومان لتعلّم لغة أجنبية، أكثر منها أي حافز آخر، ولذلك، وجدنا بداية من القرن الثاني قبل الميلاد وصاعدًا، إقبالًا من الرومان على تعلّم اللغة اليونانية العامية “الكويني”، فثقافة العصر آنذاك فرضت ذلك، وصار معرفة الروماني النبيل تلك اللغة الكويني واستخدامها، دليلًا على أنه مُتعلم، وتعليمه جيد. ولقد أقبل رجال السياسة والأدباء المشاهير الرومان على تعلّمها، وكان من بين هؤلاء المشاهير الرومان، الذين أجادوا استخدام تلك اللغة، إلى جانب لغتهم اللاتينية، رجل الدولة والفيلسوف الروماني الأشهر شيشرون (Cicero)، والقائد العسكري بومبي (Pompey)، وكذلك رجل الدولة والقائد العسكري والسياسي البارز يوليوس قيصر (Julius Caesar).

لغات الإمبراطوية الرومانية

من الجدير بالذكر في هذا المقام، الإشارة إلى أنه في أثناء الفترة الإمبراطورية في روما، والتي امتدت على مدى أربعة قرون تقريبًا، من عام 27 ميلادية وحتى عام 476 ميلادية، كان من النادر أن يتعلم الرجل الروماني الأصيل لغة أجنبية غير اليونانية، حتى غدت لغة ثانية بعد اللغة اللاتينية، فكانوا يستخدمونها في كتاباتهم ومراسلاتهم بصورة طبيعية، وإذا تحدّث أحدهم باللاتينية فكان يُدّخل بعض الكلمات اليونانية على حديثه، أو يدخلها على كتاباته، بقصد أو دون قصد منه، فهذا أمر طبيعي، وكان كثير الحدوث.

لذلك لم يجد الرومان، في أثناء توسعاتهم، غضاضة في الإبقاء على اللغة اليونانية لغة رسمية في البلاد التي احتلوها بشرق المتوسط، ولم يسعوا إلى فرض لغتهم اللاتينية في تلك البلاد. وذلك عكس البلاد الأخرى التي فتحوها بغرب المتوسط، والتي لم يسبق احتلالها من اليونانيين، فقد سعى الرومان إلى نشر لغتهم اللاتينية بها، وجعلوها لغة رسمية في تلك البلاد.

لماذا اندثرت اللغة اليونانية؟

اللغات الأجنبية

من الجدير بالذكر، انفتاح سكان غرب المتوسط على معرفة وتعلم اليونانية العامية إلى جانب اللاتينية، في الوقت الذي اكتفى فيه سكان شرق المتوسط بيونانيتهم، وعدم سعيهم لمعرفة اللغة اللاتينية في أثناء هذه الفترة الزمنية.

هكذا نجد أن الرومان كان لديهم حافز لتعلم لغة أجنبية، وإن كان بغرض الوجاهة الاجتماعية في البداية، إلا أن هذا الحافز لم يتوفر لليونانيين الأقدمين، الذين ظلوا لا يتحدثون غير لغتهم اليونانية. وقد يكون هذا سببًا في عدم تطور اللغة اليونانية، على عكس اللاتينية التي تطورت وأخرجت عديدًا من اللغات الأوروبية الحديثة الحالية.

مقالات ذات صلة:

أثر الغزو الثقافي اليوناني على المجتمع الروماني

فَسبكَ، يُفسبِك، فهو مُفسبِك أو فيسبوكي!

الفوضى الخلاقة في الأدب الروماني

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.