مقالات

العقل ومتاهات الأفكار .. (من الذي وصَفَ الفيل؟!)

سنتحدث في هذه الدردشة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– عن موضوع مهم هو: العقل ومتاهات الأفكار عبر تاريخ الفلسفة الطويل.

تاريخُ الفلسفةِ الطويل

إنَّ تاريخَ الفلسفة طويلٌ، بل بالغُ الطول، لو أننا سايرنا المفكرين الغربيين لقلنا: إن تاريخ الفلسفة مرَّ عليه أكثرُ من ستة وعشرين قرنًا، إنْ كانتِ الفلسفةُ قد بدأتْ في القرن السادس قبل الميلاد على يد الفيلسوف اليوناني طاليس/ ثاليس.

أما إن كنا ننوي متابعةَ المؤرخين الشرقيين للفلسفة فعلينا أنْ نعودَ إلى الوراء كثيرًا (ربما قبل ثلاثين قرنًا حيث نشأتِ الفلسفةُ على ضفافِ النيل في مصر، أو في بلاد الرافدين).

أين الحقُ وأين الباطل؟

إذن الفلسفةُ مثقلةٌ بتاريخٍ طويل يا صديقي، ويا صديقتي، فماذا إذا كنت أنت من المجتهدين وأردت أنْ تلمَ بالأفكار الكبرى التي أنتجها هذا التاريخُ العظيم الموغل في القدم؟

إذا كانت عندك هذه الهِمةُ العاليةُ وذلك الإصرارُ على تنفيذ مشروعك هذا، فكم من الأفكار والنظريات والمذاهب والفلسفات والرؤى المتعارضة المتضاربة المتناقضة ستتعرف؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا افترضنا أنك فعلت ذلك، فهل سيبقى عقلك –والحالة هذه– في مكانه في رأسك؟ فماذا يحدث إن سألت نفسك أين الصواب وأين الخطأ؟ أين الحق وأين الباطل؟ ألن يصيبك الجنون أو الاضطراب العقلي، أو على الأقل الحيرة والضلال والتيه في متاهات الأفكار العميقة الواسعة؟

هذا إن كنت من غير المختصين المتخصصين في الفلسفة، فماذا إن كنت من هؤلاء؟ هل كان الحال سيختلف؟ أن تسأل وتحاول الإجابةَ عن السؤال المزلزل للعقل زلزالًا شديدًا: أين الحق وأين الباطل في كل ذلك التاريخ لأم العلوم كلها جميعها؟

من الذي وصفَ الفيل؟

تاريخ الفلسفةذات مرة روى بوذا قصةَ العميان والفيل (كتاب أوداتا)، قال: “إن أحد الملوك السابقين أمرَ مجموعةً من العميان وأحضرهم  أمام أحد الأفيال، وطلب من كل واحد منهم أنْ يلمسَ جزءًا معينًا من أجزاء جسم الفيل، مثل الرأس والخرطوم والأرجل والذيل وهكذا.

فيما بعد، طلب الملكُ أن يصفَ كل واحد من هؤلاء العميان طبيعةَ ذلك الحيوان، فمن لمسَ رأسَ الفيل وصفه بأنه جرَّة ماء، وأما الذي لمسَ أذنَ الفيل فشبهه بمروحة ذرِّ الغلال، وأما الذي لمسَ قدمَ الفيل فقال: إنه يشبه العمود، وأما الذي لمسَ نابَ الفيل فأصرَ على أن الفيلَ يشبه الوتد.

أخذ هؤلاءِ العميانُ يتناقشون فيما بينهم، ويصر كلُ واحدٍ منهم إصرارًا على أن تعريفه هو الصواب والحق وأن تعريف غيره هو الخطأ والباطل.

السؤال الآن –من وجهة نظرك أيها المبصر! – أيهم المحق وأيهم المبطل؟ وبعبارة أخرى من الذي وصفَ الفيل حقًا؟”.

اقرأ أيضاً: «زينون» يُرشد أتباعه إلى بابي الحقيقة والباطل

تعرف على: كيفية البحث عن الحقيقة والتأكد من صحة الأمر

اقرأ أيضاً: عن أصل الفلسفة أتحدث

مقاربةُ الحقيقةِ

هكذا هي آراءُ الفلاسفة –عبر تاريخ الفلسفة الموغل في القدم– تشبه هؤلاء العميان، كل منهم وصف جزءًا من الحقيقة وفاته أجزاء.

إذا أردنا أنْ نجمعَ آراءَ العميان، أعني الفلاسفة، لنصلَ إلى صورةٍ تقريبيةٍ للحقيقة، فعلينا أنْ نأخذَ وصفَ ما أصاب فيه جميعهم، لا وصف ما أصاب فيه واحد منهم فقط.

إن فيلسوفًا، أو مذهبًا، أو اتجاهًا فلسفيًا، لا يمكنه أنْ يصلَ منفردًا إلى الحقيقة الكاملة المطلقة، وإنما هو يقاربُ جزءًا من هذه الحقيقة؛ مجردَ مقاربةٍ لا امتلاكٍ مطلقٍ لها.

عظمةُ الإنسانِ وعظمةُ الفلسفة

تاريخ الفلسفة

إنْ كنتَ تقول: “ولمَ أدرسُ الفلسفةَ وأضيعُ عمري في متاهاتها؟ لمَ لا أهب عمري لعلم الفقه مثلًا؟ فليس في هذا العلم متاهة كمتاهة الفلسفة!”.

أقولُ لكَ: “هذا ظنك الطيب يا صديقي الطيب، فما أنْ تشرعَ في دراسة علم الفقه إلا وستجد المتاهةَ عينها من الأفكار، ودعني أزيدك: وتلك هي عظمة الإنسان يا صديقي!”.

إن قلت: “وما عظمةُ الإنسان؟”، أقولُ لك: “إنّ عظمةَ الإنسان في محاولته وليس في وصوله، في مقاربته وليس في امتلاكه؛ في محاولته للوصول إلى الحقيقة وليس في ذلك الوصول، في مقاربته للحقيقة، وليس في امتلاكه المطلق لها.

على قدر هذه المحاولة وتلك المقاربة يكون نصيبك من الحقيقة، وتلك هي عظمتك أيها الإنسان الكادح إلى الحقيقة كدحًا فملاقيها”.

الخلاصة

في تاريخ الفلسفة المتناقض، المتضارب، المحيّر، تكمنُ عظمةُ الفلسفة؛ سعيٌ إنسانيٌ دائمٌ لا يكف ولا ينتهي نحو الحقيقة، وليس امتلاكًا مطلقًا موهومًا للحقيقة.

ذلكم هو درسُ الفلسفةِ، وتلكم هي عظمتُها وعظمةُ تاريخِها الطويل، وإذا كان تاريخُ الفلسفة متاهةً كبرى للأفكار بتضارباتها وتناقضاتها، فإنَّ الفلسفةَ ذاتَها، ستكون هاديك ومرشدك للخروج من هذه المتاهة، واصلًا إلى غايتك محققًا هدفك!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج