علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثاني

نستكمل في هذا الجزء نماذج أخرى من النظريات المفسرة للسلوك الإنساني

مدرسة التحليل النفسي

يقرر فرويد –وهو زعيم تلك المدرسة– أنه يجب الاحتفاظ بهذا المصطلح “كلمة غريزة” للنزاعات الأولية وحدها. والغريزة عند فرويد تعبر عن قوة نفسية راسخة تصدر من صميم الكائن العضوي، وتنبع أصلًا من حاجات البدن التي تنتج مما يجري في أعضاء الجسم وأجزائه، بل فيه كله، من عمليات بيولوجية لا يستغني عنها الكائن الحي، هذه الحاجات التي تصدر من التكوين البدني النفسي للإنسان تؤدي به –إذا ما ثارت– إلى حالة من التوتر يدفعه إلى تدبير الموقف الذي يهيئ له ما يلتمسه من الإشباع، ويؤدي إلى التخلص أو التخفف من ذلك التوتر.

يعتقد فرويد أنه يمكن إرجاع جميع أفعال الإنسان إلى غريزتين هما: غريزة الحياة وغريزة الموت.

غريزة الحياة في نظره هي الغريزة الجنسية التي تهدف إلى بقاء النوع، وهي غريزة معقدة كثيرة العناصر تمر بعدة مراحل مختلفة حتى تصل إلى النضج الذي تتميز به عند الإنسان البالغ. ووجد أن أهم مناطق الجسم التي تصدر تلك الغريزة منها هي الفم والمخارج ثم الأعضاء التناسلية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما غريزة الموت في نظر فرويد فهي تلك النزعة إلى العدوان، وهي استعداد فطري غريزي قائم بذاته في نفس الإنسان، وتشاهد هذه النزعة في الرضيع حين يعمل أسنانه في الثدي، كما نشاهده في الكراهية الشديدة والغيرة الحادة التي تبدو حتى بين الأخوة.

نظرية المجال

صاحب نظرية المجال

og kurt lewin 12704 - النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثانيمن مؤسسيها ليفين إذ يصف الموقف كما يراه الفرد، إذ يقول ليفين في كتابه النظرية الديناميكية في الشخصية:

“عندما نريد أن ندرس المشكلات المتعلقة بديناميكيات السلوك يجب أن نبدأ من البيئة السيكولوجية الحقيقية للطفل، ولكي نصف البيئة السيكولوجية للطفل لا يجوز أن يكون أساسًا القوى والعلاقات الاجتماعية الموضوعية، أي كما يصفها عالم الاجتماع أو المشرع، بل يجب أن نتخذ أساسًا لنا في وصف الحقائق الاجتماعية كما تؤثر في الفرد نفسه. وإن من الخصائص المثيرة لنظرية المجال في علم النفس أنها تحتم وصف المجال الذي يؤثر في الفرد نفسه، أو على النحو الذي يدركه ذلك الفرد وفي الوقت الذي يدركه فيه”.

يلخص المعنى المتضمن في عبارة ليفين السابقة موقف الجشتاليين عمومًا، ذلك أن جماعة الجشتاليين لا يخرجون عن هذا المعنى عندما يفسرون السلوك، بافتراض وجود عوامل أو متغيرات تتصل بعملية الإدراك. فيستخدم كوفكا مثلًا في تفسير السلوك مفهوم البيئة السيكولوجية، وكذلك مفهوم المجال السيكلوجي الذي يتضمن المفهوم السابق ومفهوم المجال الفسيولوجي معًا.

تفسير السلوك في ضوء نظرية المجال

يستخدم كيلر في تفسير السلوك مفهوم المجال الفينومينولوجي، كما يستخدم أيضًا مفهوم مجالات المخ، وهكذا، وقد يختلف ليفين عن الجشتاليين ممثليين في كوفكا وكليرمن، إذ إن الآخرين يستخدمان مفهومات فسيولوجية في تحديد الخصائص التي يمتيز بها المجال المحدد للسلوك، في حين أن الأول لا يستخدم هذه المفهومات. إلا أن المنهج الذي يصف كلاهما على أساسه المجالات المحددة للسلوك سواء أكانت هذه المجالات هي “مجالات المخ” أم كانت “المجال السلوكي” أم كانت “الحيز الحيوي”، لا يختلف في جوهره من حالة إلى أخرى. ذلك أن الجميع يصفون المجال المحدد للسلوك وصفًا فينومينولوجيًا يعتمد إلى تأمل ذاتي باطني.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النظريات المجالية عمومًا، سواء الجشتاليين أو نظرية ليفين أو نظرية سينج وكومز أو نظرية روجرز، تعد الإدراك –إدراك الفرد للموقف أو المجال الطبيعي– عملية سابقة لكافة أنواع النشاط السلوكي، ومحددة له في الوقت نفسه، فالإدراك في نظر هذه النظريات جميعًا يحتوي على العوامل المحددة للسلوك، أو هو الذي يتضمن محددات السلوك أو أسبابه، فإذا أردنا أن نفسر السلوك إذًا فلنرجع إلى الإدراك، وإلى الإدراك فحسب، لنرى كيف يتأثر الفرد بالموقف. من هنا، أي ابتداء من عملية الإدراك هذه، نستطيع أن نقرر لماذا تحدث هذه الاستجابة الكلية أو تلك.

الفروض التي قامت عليها نظرية المجال

80c24cd4 5c49 4692 b7d5 2dedd17cf2e5 1024x675 - النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثانيأقام ليفين نظرية بأكملها على هذا الأساس، فافترض ما سماه بالمجال الحيوي السيكلوجي أو الحيز النفسي، وأخذ ينظر إلى محددات السلوك على أنها أحداث أو شبه أحداث تتم في داخل هذا المجال، وبالرغم من أن المجال الحيوي تكوين فرضي ذو صبغة سيكلوجية ويفتقر إلى الأبعاد الطبيعية، إلا أن ليفين قد تحدث عما يوجد في داخل هذا المجال.

افترض أنه يشمل كلًا من الفرد والبيئة، كما أنه ميز في كلٍ منهما أحداثًا وقوى، هي في رأيه المحددات الأساسية للسلوك.

افترض ليفين أن هذه الأحداث وهذه القوى المحددة للسلوك تتحرك من مكان إلى آخر داخل هذا المجال السيكلوجي، واستعان لبيان شدة هذه الحركة واتجاهاتها ببعض المفهومات الرياضية والميكانيكية، على نحو أشبه بما يحدث في العلوم الطبيعية.

الإطار العام لنظرية المجال

يرى ليفين أن البيئة في المجال الحيوي تشمل خبرات الفرد المختلفة، وآلامه وأمانيه ورغباته ومدى حريته في المجال ولغة قومه وأصدقاءه وأسرته، ثم قيم الجماعة التي يعيش فيها وإمكانياته الاقتصادية، وأخيرًا ما يصادفه من عقبات تحول دون تحقيق أهدافه ورغباته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يختلف الأفراد من حيث مكونات المجال الحيوي والقوى المختلفة المؤثرة فيه، إذ إنه من الصعب –بل من المتعذر– أن يتفق اثنان في بيئتهما وفيما اكتسباه من خبرات نتيجة احتكاكهما بالوسط المحيط بهما وتفاعلهما معه، ومعنى ذلك أن المجال الحيوي لكل من تلميذين يجلسان أحدهما إلى جوار الآخر في الفصل، يختلف كل منهما عن الآخر تمامًا.

الفرد الذي يجلس إلى مكتبه يرسم خطته للغد، يتحرك في عالم يختلف تمامًا عن المكان الذي يجلس فيه، ذلك أن مجاله الحيوي هو المكان الذي يعيش فيه نفسيًا، أي المجال الذي يدركه هو شخصيًا، وهو يتفق من نواح كثيرة مع العالم المحيط به، عالم الأشياء والأشخاص والأفكار، ولكنه لا يصلح عالمه الخاص إلا بعد أن يحوره ويخرجه على طريقته.

الحيز الحيوي عند ليفن

أما الفرد هو الجزء الرئيس الثاني في المجال الحيوي فله تكوينه الخاص، ويمثله ليفين بمنطقة متحركة في داخل المجال، كما أنه يقسمه إلى جزئين: الجزء الخارجي ويمثل منطقة الحس والحركة، والجزء المركزي ويمثل منطقة الشخصية الداخلية، ويمثل الجميع بدائرة تقع في دائرة أوسع هي دائرة المجال الحيوي، والمساحة الواقعة بين الدائرتين هي الجزء الذي يمثل البيئة في هذا المجال.

يعد ليفين أن السلوك محصلة للنشاط النفسي الذي يحدث في داخل هذا المجال، ذلك النشاط الذي ينظر إليه ليفين على أنه أحداث تتحرك من نقطة إلى أخرى داخل المجال. فالفرد مثلًا يتجه نحو الهدف أو الأهداف التي تتميز بجاذبية إيجابية بالنسبة إليه ويبتعد عن عن الأهداف ذات الجاذبية السلبية، وقد تعوقه عن الوصول إلى هذه الأهداف عوائق، ويتوقف مقدار تغلبه على هذه العوائق والاستمرار في الحركة، أو توقفه أو تغيير اتجاهه، يتوقف ذلك كله على مدى الحصول على هذا الهدف، ومدى القوة أو الضعف الذي تكون عليه هذه العوائق، ومدى الجاذبية التي قد تكون لأهداف أخرى موجودة في المجال السيكلوجي، بما يحدد المحور الذي تسير فيه الحركة أخيرًا، حتى يعاد الاتزان أو التعادل مرة ثانية إلى المجال الحيوي.

هكذا يسير ليفين في نظريته مستخدمًا العبارات الرياضية والميكانيكية المختلفة ومستعينًا بالرسوم والأشكال، لتوضيح ما يمكن أن يحدث في المجال السيكلوجي أو الحيز الحيوي، كما لو كان يتحدث في مجال طبيعي وعن حركة وأحداث واقعية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رسم توضيحي

لكي نستطيع أن نوضح موقف النظريات المجالية عمومًا يمكننا أن نستعين بالرسم التوضيحي الآتي:

م(المتغيرات المتعلقة بالمثير) و(المتغيرات الوسيطة) س(المتغيرات المتعلقة بالاستجابة)

Screenshot 2023 01 16 162212 - النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثاني

X ? المجال الإدراكي السلوكي

Screenshot 2023 01 16 162249 - النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثاني

ويبين هذا الرسم أنواعًا ثلاثة من المتغيرات:

النوع الأول ذلك الذي يتعلق بالأحداث أو المثيرات الخارجية، سواء كانت هذه الأحداث أو المثيرات تقع في حاضر الفرد، أم كان قد مر بها في ماضيه، وهذا النوع من المثيرات هو ما يعنيه ليفين بالمجال الطبيعي أو البيئة الطبيعية.

أما النوع الثاني من المتغيرات فهو ذلك الذي يتعلق بالتكوينات الفرضية التي يستعين بها علماء النفس في تفسير السلوك، بالإضافة إلى متغيرات النوع الأول. وقد دعى إلى استخدام مثل هذه المتغيرات، وأن المثير قد يكون واحدًا، ومع ذلك يختلف السلوك من فرد إلى آخر.

أما النوع الثالث من المتغيرات فهو السلوك نفسه المراد تفسيره.

استخدام ليفن المفاهيم الديناميكية

استخدم ليفين مفهوم حيز الحياة أو المجال الحيوي، واستخدم غيره المجال الإدراكي ليعبروا عن إدراك الفرد لبيئته –بما في ذلك ذاته– ثم ضمنوا هذا الإدراك جميع الحقائق التي يمكن أن تعد مسؤولة عن السلوك.

نظرية ليفين قامت في الحيز الحيوي على أساس تصورات ذاتية، لذا فقد جاء كلامه سواء من الناحية التوبولوجية أو من الناحية الديناميكية، كلامًا مجازيًا لا يعتمد إلا على الاستعارات والتشبيهات دون تحديد موضوعي لمتغيرات واقعية، وقد استعار ليفين من العلوم الطبيعية والرياضية مفاهيم الطاقة والمحور والتوتر والجاذبية والمكان والمنطقة، واستخدمها في ميدان الظواهر السيكلوجية.

المدرسة الإنسانية

f25feee5b5d6ee40250bf07dee4d1e31 - النظريات المفسرة للسلوك .. الجزء الثاني

جاءت هذه المدرسة بعد التطورات الاجتماعية والتكنولوجية التي سادت في العالم وأفقدت الإنسان كثيرًا من حريته، كما أفقدته السيطرة على مستقبله وخصوصياته، فجاءت هذه المدرسة بمحاولة لإعادة الإنسان إلى إنسانيته، واعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن أفكارهم هي الأفضل لغرس الاتجاهات الإنسانية في الإنسان، في زمن أصبح فيه الإنسان غريبًا، وركزوا على أبعاد الإنسان المختلفة.

أهم رواد المدرسة الإنسانية

أبرز رواد هذه المدرسة الفلاسفة الوجوديين، مثل سارتر 1980م، وكارل روجرز 1969م، وأبراهام ماسلو 1970م، وتعد هذه المدرسة القوة الثالثة في علم النفس منذ قيامها عام 1940م، وانطلق روادها من قناعاتهم أن النظريات السابقة لم توفق في تفسيرها لدوافع السلوك الإنساني، وركزوا على الحرية الشخصية للفرد، والاختيار، والقرار الذاتي، والسعي للتطور.

نظرية ماسلو للحاجات

يعد ماسلو أول من لاحظ الطبيعة المتدرجة للحاجات والأهداف وأوضح أمرًا هامًا، أن الأهداف الرفيعة لا يمكن الوصول إليها حينما يكون الفرد مجبرًا على البحث عن أهداف تشبع حاجاته الأساسية، واستدل أن الإنسان في حالات الحرب، يضطر إلى إشباع حاجاته الضرورية اللازمة للبقاء، ولا يجد متسعًا من الوقت لخدمة الأهداف العليا أو تحقيقها مثل تحقيق الذات، واتفق ماسلو مع روجرز أن التعلم هو أفضل الدوافع وأقواها لأن إمكانيات التعلم ودافعيته متأصلة في الإنسان.

التدرج في الاحتياجات الإنسانية

قام ماسلو بوضع قائمة من الحاجات الشخصية التي من شأنها أن تفسر أوجه التباين فيما يصدر من سلوك عند الأفراد في الموقف الواحد، واقترح ماسلو نظامًا هرميًا من الحاجات، تقع في قمته الحاجات العليا مثل تحقيق الذات والجمال، وفي قاعدته الدوافع الدنيا وهي الحاجات الفسيولوجية، وبينهما مجموعة من الدوافع الأخرى، وأشار إلى أن الإنسان لا توجد عنده الدوافع العليا في الهرم إلا بعد أن يتم إشباع دوافع عنصرية، وكلما أشبع نوعًا من الدوافع والحاجات، ظهر عند المستوى الأعلى من الدوافع.

نبه ماسلو إلى أن الدوافع التي تقع في قمة الهرم، تطغى على السلوك طغيانًا أكبر من طغيان الحاجات أو الدوافع الفسيولوجية، لأن الحرمان الشديد من بعض الدوافع يتنج عنه طغيانها على سلوك الفرد، بغض النظر عن موقعها في الهرم، ولذا سمى هذه بالدوافع الحرمانية، إلا إنه يمكن معرفة أهمية الدوافع النسبية في تقرير السلوك عند الفرد بمدى قربها أو بعدها من قاعدة الهرم، فأقوى الدوافع هي الفيسيولوجية، وبعد أن يتم إشباع المستوى الأول من الدوافع تطغى على الفرد المستوى الثاني من الدوافع وهكذا، والعلاقة بين الدوافع عند ماسلو تبادلية والافتراض الرئيس عند ماسلو أن دوافع السلوك مصدرها الحاجات غير المشبعة تفقد تأثيرها كونها قوة محركة أو دافع للسلوك.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

العلاقة بين السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية

هل تعرف كيف يتوجه سلوكك؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

الغزالي رشاد محمد الغرباوي

باحث دكتوراة بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان

مقالات ذات صلة