مقالات

أهم وأخطر المسؤوليات في الوقت الراهن .. الجزء الثاني

إن الحديث عن المسؤولية الفردية لكل فرد، هو بدرجة ما حديث عن الثقافة وما ينبغي أن يكون، فأي فعل يقوم به الإنسان هو نتاج تفكيره ورؤيته التي تشكل سلوكه فيما بعد، وما ينتج عن ذلك من نوع من الثقافة العامة التي يتسم بها الفرد نفسه.

فلو نظرنا لكم الجرائم التي ترتكب اليوم في العالم تحت مسميات مختلفة لوجدنا تعامل الناس معها مختلف ومتباين، عندما يقتل الأطفال في فلسطين أو ترتفع  معدلات المجاعة في بعض الدول الأفريقية نجد من يتظاهر للدفاع عن حقوق الحيوان.

مأزق المسؤولية الثقافية

ومن المفارقات الغريبة أيضا التي تعبر على دور الثقافة وأهمية المسؤولية الثقافية؛ ادعاء بعد الدول الغربية الدفاع عن حقوق الإنسان في الوقت التي تمارس هي نفسها انتهاك تلك الحقوق، فكان من بعض الشرفاء في نفس تلك البلدان أن أظهروا للعالم زيف ادعاء دولهم وبطلان الشعارات المرفوعة ، فتلك أيضا مسؤولية ثقافية.

يعتقد البعض من أصحاب الأخلاق الحسنة أن الانفعال العاطفي والتفاعل النفسي حول بعض المسؤوليات التي تخص قضايا شريفة كالقضية الفلسطينية هو أقصى ما يمكن فعله كحد أقصى من المسؤولية تجاه تلك القضية وبالرغم من جمال هذا الشعور إلا أنه لا يمكن أن يكون داعم حقيقي ومؤثر ،

فالتعاطف وحده لا يكفي؛ بل يجب في تلك القضية على سبيل المثال تحمل المسؤولية بدرجة ما من كشف مخططات العدو وفضح ممارساته ومقابلة الفكر بالفكر وإبطال مغالطاته وسد الثغرات الفكرية والنفسية التي يمارسها في الإعلام تلك هي المسؤولية الثقافية والتي تختلف عن مجرد التعاطف والانفعال النفسي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ضرورة فهم الواقع وتحليله

إن تلك المسؤولية الثقافية تستلزم مجموعة من الأدوات والمعارف الأولية والتي من جملتها القدرة على فهم الواقع وتحليل الأوضاع الراهنة بدرجة من الواقعية والموضوعية.

لا شك في أن عالم اليوم يمر بالكثير من الأزمات الأخلاقية والنفسية والسلوكية وكذلك الفكرية، فمع بعض المشاهدات البسيطة لما يقدم من أعمال فنية أو يقدم في البرامج الحوارية، وحتى الأخبار العامة المتداولة، نجد كم هائل من تلك التفاصيل الجزئية التي تعبر عن سوء حال ما وصل له العالم أجمع وأغلب مجتمعاتنا خاصة.

فلك أن تتذكر مثلا كم من الأيام والأخبار قد تداولت حول فستان فاضح لممثلة، أو الكلمات غير اللائقة في (ظاهرة المهرجانات) أو صورة لاعب كرة قدم، ناهيك عن أخبار القتل والاغتصاب والتفكك الأسري، كذلك انتشار النسبية وترسيخ مبدأ عدم اليقين في كل القضايا لهو أيضا من مشكلات هذا العصر أيضا.

كل ذلك يوضح بدرجة ما أهمية الانطلاق من المعارف الإجمالية الثابتة والانتقال بها من مرحلة البحث النظري لمرحلة التطبيق العملي حول الكثير من تلك الجزئيات السابق ذكرها.

القوة الغائبة عن الوعي

المسؤولية الثقافية

إن الانتقال من إخراج الناس من التأثير العاطفي لمرحلة الوعي والمعرفة وبالبصيرة لهو أمر أصبح ضروريا، ويتضح أهمية هذا الأمر بأن حربا كاملة بكل أدواتها تعتبر المعرفة هي قضيتها وهي الحرب الناعمة التي ساهمت في التأثير السلبي على أغلب المجتمعات بدرجة أكبر من التأثير الذي أحدثه التدخل العسكري المباشر.

يمكن القول باطمئنان أن المسؤولية الثقافية تستدعي نزول الجميع ساحة المعركة الفكرية والثقافية، وفق القدرات والمواهب المختلفة والمتفاوتة بين الناس، أن على الجميع مسؤولية يجب أن لا يتخلى عنها.

إن أهم ما يؤثر في الإنسان هي معارفه وميوله، وهذا ما يبدو  واضحا جليا في استراتيجيات الحرب الناعمة والتي تسعى باستمرار للتأثير على الميول وتزيف المعارف أو إخفائها،

وهنا أيضا يظهر الدور المحوري للمسؤولية الثقافية، فالواقع يثبت بوضوح أن التأثير على الوعي والميول والرغبات هو الأساس في السمة الغالبة على أي مجتمع والمؤشر الواضح لرقي المجتمع أو تسافله.

دور المسئولية الثقافية في مواجهة أزمة الوعي

فإذا كان الوعي قائم على وقائع وحقائق كان سلوك الناس انعكاس لذلك، وإن كان الوعي قائم على المغالطات وتحريف الحقائق كان الانعكاس أيضا على الناس من نفس الشاكلة، ويمكن توضيح ذلك بنموذج عملي عن وعي الناس عن الزواج وانعكاس هذا الوعي عليها، والميول التي ظهرت نتيجة هذا الوعي القائم حاليا والذي يتطلب المساهمة بالمسؤولية الثقافية حيال ذلك الأمر.

الزواج كنموذج

أغلب شبابنا اليوم يملك وعي مغلوط عن الزواج فالكثير لا يعلم معايير اختيار الزوج والزوجة وأهمية وجود مشتركات على مستوى النظرة للحياة وكيفية العيش والهدف لحياتنا بعد الزواج، والتي تنعكس في أغلب الاحيان على اتمام الحياة الزوجية على الوجه الذي يحقق المودة والرحمة.

هذا الوعي الزائف الذي حدد الزواج بقدر ما يملك الشاب من أموال وقدر ما تمتلك الشابة من جمال قد حدد ميول لدي الطرفين مختلفة عن طبيعة وحقيقة الزواج.

فأغلب شباب اليوم يبحث غالبا على الجمال دون الاهتمام بباقي الجوانب النفسية والسلوكية الأخلاقية وكذلك المعرفية لشريكة حياته، وعلى الطرف الآخر تنتظر أغلب فتيات اليوم للزوج الغني الوسيم الذي يستطيع تحقيق رغباتها في التمتع بالحياة في جانبها المادي من رحلات وأزياء ومكياج ومستوى اقتصادي مرتفع،

دون النظر أيضا للجوانب النفسية والأخلاقية والمعرفية لشريك حياتها، لا يعلم أغلب شبابنا مدى المسؤولية التي تقع عليه وعلى شريك حياته بعد الزواج في مرحلة بناء الأسرة والتي تتطلب مسؤوليات التربية والأمان النفسي ونقل الخبرات.

كل ذلك ناتج عن تزيف الوعي وانحراف الميول جعل من الزواج تجارة وتفاخر بين الناس وانحرف بمضمونه الحقيقي عند شبابنا حتى بات الغالب في  الحالات بعد الزواج أما الخلافات أو الطلاق وأصبح الزواج الناجح القائم على قيم ووعي حقيقي يؤسس للمودة ورحمة هو الغريب عنا وعن شبابنا.

اقرأ أيضاً: الجزء الأول من المقال

اقرأ أيضاً: لماذا نتزوج

اقرأ أيضاً: ما هي الثقافة؟ وما عناصرها؟

النسبية الأخلاقية في ظل تضليل الإعلام

إن أزمة عالم اليوم هي في المقام الأول أزمة ثقافية وأخلاقية، فبالنظر للبلدان المتقدمة نجد الضياع والإبهام والتشكيك الفكري الشديد كذلك سيولة ونسبية كل القيم في أزمة لم يعهد لها مثيل عبر التاريخ.

فلو نظرنا لمرحلة السفسطة اليونانية لوجدنا أنه ظهرت وأحدثت بعض التأثير لكن سرعان ما انتهت بفضل جهود الفلاسفة والمفكرين أمثال أفلاطون وسقراط، أما اليوم فنحن تحت سيطرة موجة من التشكيك في كل شيء شملت حتى المحافل العلمية والثقافية،

مرحلة من السيولة الفكرية والثقافية لم يعهد لها مثيل، في ظل غياب شبه تام من المواجهة إلا في القليل غير الظاهر لجموع الناس بسبب التضليل الإعلامي والسيطرة التامة على وسائل الإعلام من دعاة التشكيك والنسبية.

لدرجة أصبح اليقين فيه يستهزأ بأصحابه.

أهمية المسؤولية الثقافية في التصدي للنسبية

المسؤولية الثقافيةوهنا يظهر لنا مرة أخرى أهمية المسؤولية الثقافية، تلك المسؤولية التي يجب أن تواجهه تلك النزعة النسبية، يجب أن يعرف الجميع أن مذهب الشك المطلق آفة كبيرة على المجتمع البشري تؤدي لضياع القيم والاعتقادات.

من ضمن مظاهر الأزمة الثقافية لهذا العصر، القول بأن الناس يمتلكون أفكار مختلفة وأذواقا متعددة، وأن كل الأفكار سواء  للأفراد أو المجتمعات هي أفكار يجب أن (تحترم) فلا ينبغي لنا التعرض لأفكار الآخرين ولا نقلق من أن تحل أفكار الآخرين محل أفكارنا،

فلا يجب أن نعتبر أن هناك أفكار مطلقة وثابتة. فكما أن التعددية مطلوبة في المجال السياسي والاقتصادي فهي كذلك في المجال الفكري.

إن هكذا تفكير لهو من أدوات المستعمر الثقافي فهو وسيلة للحد من انتشار الحق الثابت، فهكذا فكر يمهد الأرضية بكل سهولة لانتشار التشكيك والنسبية وضرب قيم المجتمعات والتقليل من خصوصيتهم الحضارية والفكرية.

يجب انطلاقا من المسؤولية الثقافية الرد على هكذا ادعاء، فلا يوجد أي تلازم بين قبول التعددية الاقتصادية والسياسية وبين قبول التعددية في مجال الفكر والثقافة، فهل يمكن أن تقبل بالتعددية في المسائل الرياضية،

العلاقة بين النسبية والتعدد الفكري والثقافي

في مجال المعارف البشرية مسائل من الممكن أن يكون لها عدة أجوبة، لكن هناك من المسائل لها جواب واحد فقط، وهنا نطرح سؤال نحن بدورنا على القائل بالتعدد الثقافي لما لا تقبل القبول ببطلان التعدد في المجال الفكري باعتبار أنك تؤمن بحق الجميع في تبني ما يؤمن به.

إن البديهيات العقلية تمنع القول بالنسبية، فقضية بديهية مثل (الكل أعظم من الجزء) لو اعتقد بها شخصان بشكل متخالف لأدّى ذلك لاجتماع النقيضين المحال، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لقضية (النقيضان لا يجتمعان).

في المجال الرياضي والتجريبي هناك أساسيات مطلقة لا تخضع للنسبية؛ لأنها علوم ذات قواعد صناعية لا أحد يستطيع تجاوزها؛ فليس لأحد أن يدّعي أن الحديد لا يتمدد بالحرارة ومن وجهة نظره، أو أن يرفض أن الإثنين نصف الأربعة مثلا،

فإن أقر النسبيون بإطلاق تلك القضايا فعلى أي أساس يلصقون النسبية بقضايا فكرية واعتقادية أخرى؟ وإن اعتبر بعضهم القضايا التجريبية والرياضية نسبية فعلى أي أساس صنعوا الطائرات والأبراج ووسائل المواصلات طالما أنها مبنية على قوانين فيزيائية وميكانيكية غير ثابتة ولا تسبب لهم الاطمئنان ودرجة الأمان الكافي؟

هل صحيح أن كل شيء نسبي؟

إنّ أكبر نقض يواجه به النسبيون هو ما يرد على مقولتهم (إن كل علم نسبي) فهل أن هذه القضية مطلقة أم نسبية؟ فإن قالوا أنها مطلقة، فهو اعتراف بعلم مطلق لا يخضع لرأي شخص أو إيحاء ظرف ما. فإنهم أرادوا إثبات نسبية كل القضايا فتورّطوا بإثبات إطلاق قضية لم تسلم من النقض.

وإن قالوا: إنها نسبية، فتفقد صلاحيتها كقانون كلي مطلق لسائر القضايا والأحكام.

إن التأكيد على المسؤولية الثقافية هو أمر ضروري يجب أن يحمل محمل الجد، حتى يصبح شعار عام وممارسة فعلية يحب على الجميع الالتزام بها كلا وفق قدرته.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا