مقالات

أندلسيات .. الجزء الثامن

أتحدث اليوم عن طرد الموريسكيين من إسبانيا. لم تفلح محاولات تنصيرهم، ورأى القائمون على أمر التنصير أنه رغم جهودهم المضنية فإن الموريسكيين “مسلمون كمسلمي الجزائر”. صدر قرار الطرد، وفشل الباحثون جميعًا في معرفة الفاعل.

قلنا إن الملك لا يضيره أن يكون بين رعاياه عدة آلاف يدينون بدين آخر، ورأينا أن النبلاء كانوا يجدون في الموريسكيين فلاحين مهرة يتقاضون أجورًا زهيدة، ومن ثم كانوا يدافعون عنهم ولا يريدون طردهم. أما الكنيسة فلم تكن تريد الاعتراف بعدم قدرتها مستقبلًا على تنصير الموريسكيين، ولهذا لم تكن تعلن صراحة رغبتها في طردهم.

من الذي كان يقف وراء الطرد إذًا؟ أثيرت قضية الطرد، وحاول الباحثون معرفة من يقف وراءها، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة. عكفوا على تحليل الوثائق، ولم يصلوا إلى شيء محدد. حتى الخطبة التي ألقاها الأسقف ريبيرا كانت أشبه بالتنصل من القرار.

الأمر الغريب أن إسبانيا، وهي في خضم الحروب، استدعت قواتها من إيطاليا لتأمين عملية خروج الموريسكيين. يقول ماركيث بيانويبا إن ذلك معناه وجود معارضة قوية لطردهم، معارضة لم تكن القوات الموجودة داخل إسبانيا كافية لقمعها. صحيح أن قرار الطرد وقّعه الملك فيليبي الثالث، لكنه لم يكن صاحب مصلحة فيه.

بل هناك ما هو أكثر من ذلك، إن فيليبي الثالث كان مدينًا بحياته للموريسكيين، وقد حكى لي الأستاذ غالميس دي فوينتيس في بيته أن الأمير الطفل ابن الملك فيليبي الثاني كان مريضًا اشتد مرضه، ولم تفلح محاولات الأطباء في علاجه. هنا قال أحد المستشارين للملك: “سيدي، لماذا لا نستدعي طبيبًا موريسكيًا؟ ليس لدينا ما نخسره، بعد أن عجز أطبّاؤنا”. استدعوا طبيبًا موريسكيًا عالج الطفل الأمير، فلما مات فيليبي الثاني أصبح الأمير ملكًا، أصبح الملك فيليبي الثالث، وهو الذي وقّع قرار طرد الموريسكيين. أما المطرودون فيقولون في كتاباتهم إن الله نجّاهم من ظلم فيليبي بذلك القرار وأخرجهم من إسبانيا، كما نجّى أصحاب موسى من ظلم فرعون وأخرجهم من مصر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بالحديث عن المرأة الموريسكية، تلك المرأة العظيمة التي برز دورها حين سكت صوت الرجال قهرًا، كانت محكمة التفتيش تركّز مراقبتها على الرجل، ظنًا منها أن المرأة قابعة في بيتها لا أثر لها. لكن المرأة الموريسكية استغلت الوضع، وجاهدت في سبيل المحافظة على العقيدة الإسلامية. من الذي علّم كوسمي بن عامر الصلاة؟ إنها أمّه التي كانت تعلم الناس القرآن ومبادئ العقيدة. سمعنا أيضا عن مسلمة أوبيدا، تلك المرأة الفقيهة التي تتلمذ على يديها فتى أريبالو الشهير، لم تتخلف المرأة الموريسكية عن الذود عن عقيدتها، بل جاهدت وهي في بيتها، تستقبل الرجال والأطفال لكي تعلمهم مبادئ الدين.

إن نظرة على ملفات محاكم التفتيش تقول بوضوح إن المرأة، رغم عملها في الخفاء، كان لها نصيب وافر من القضايا التي باشرتها المحكمة. إن مريمة وسليمة اللتان حدثتنا عنهما الراحلة رضوى عاشور لهما أساس في واقع التاريخ الموريسكي. كانت المرأة هي التي تعلّم أولادها في البيت، بعيدًا عن أنظار محاكم التفتيش، التي لم يكن يخطر على بالها أن تقوم المرأة –ذلك الكائن المهمل في نظرها– بدور حيوي، جهود المرأة الموريسكية هي التي أدت إلى بروز أجيال من الموريسكيين لم تنقطع علاقتهم بدينهم رغم انفصالهم جغرافيًا عن بقية أنحاء العالم الإسلامي.

لأسباب “إنسانية” سمحت السلطات لبعض النساء بالبقاء في إسبانيا بعد صدور قرار الطرد، أتصور أن دور النساء اللاتي بقين قد استمر. أحاول دائمًا أن أعتمد الوثائق فيما أكتب، لذلك لن يمنعني إعجابي بالمرأة الموريسكية من الإشارة إلى امرأة أخرى، موريسكية أيضًا، لكنها جاهلة بقضية أمتها. تلك المرأة الأخرى هي التي أبلغت محكمة التفتيش أن جارتها الموريسكية “تصلي صلاة المسلمين”، ثم اكتشفت المحكمة أن الأمر لا يعدو كونه خلافات بين جيران.

أما عن تونس وعلاقتها بالموريسكيين، فأنا شخصيًا أحببت تونس، تونس الخضراء، من قبل أن أزورها للمرة الأولى عام 1991، وهو حب يزداد بمرور الأيام، ففي كل زيارة أكتشف ميزة جديدة فيها، وسببًا آخر للولع بها. عندما أخرج من مطار قرطاج أتصرف كواحد من أبنائها لا يشعر بالغربة، هناك، في زغوان، على مسافة ساعتين من العاصمة، أسس الدكتور عبد الجليل التميمي مركز الدراسات الموريسكية.

أكاد أجزم أنه لولا هذا المركز ومؤسّسه النشيط لكانت قضية الموريسكيين نسيًا منسيًا في عالمنا العربي (أعترف بأنني شخصيًا مدين للدكتور التميمي بالدخول إلى عالم الموريسكيات). في السنوات الأخيرة تعددت المنابر التي تتناول قضية الموريسكيين، لكن يبقى للدكتور التميمي فضل السبق والريادة.

سافرت إلى تونس لحضور مؤتمر عقد بمناسبة الذكرى المئوية الخامسة لسقوط غرناطة، وفي المؤتمر تحدث مشاركون من أجناس الأرض كلها عن الموريسكيين، أما الباحثون العرب فكان عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. أرسلت إسبانيا ثلاثين باحثًا، وأرسلت فرنسا مجموعة باحثين من أعمار مختلفة، وكذلك فعلت هولندا. كان مؤتمرًا مهيبًا، حضره مندوب عن رئيس الجمهورية آنذاك، زين العابدين بن علي، ومسؤول سعودي كبير على رأس مجموعة باحثين في تاريخ الأندلس.

أتذكر أنه في إحدى الجلسات، بعد أن انتهى باحث أوروبي من إلقاء محاضرته عن الموريسكيين، فوجئنا بأستاذ يمني يسأل: “وكيف حال الموريسكيين الآن؟” ضجّت القاعة بالضحك، وشر البلية ما يضحك؛ حضرة الأستاذ اليمني لم يكن قد سمع بموضوع الموريسكيين من قبل، مع أنه متخصص في تاريخ الأندلس!

أعود إلى تونس وعلاقتها بالموريسكيين، بعد نقض معاهدة تسليم غرناطة عام 1502 وصدور قرار التنصير، لم تتوقف القرارات التي تلزم الموريسكيين الدخول في المسيحية، إن توالي القرارات يعني ببساطة أنها لم تكن تنفّذ. وبعد مرور قرن كامل من توالي القرارات –التي حال دون تنفيذها تمسّك الموريسكيين بعقيدتهم الإسلامية– أدركت إسبانيا كلها أن تنصير الموريسكيين لم يحدث، وأن التفكير في حدوثه مستقبلًا ضرب من ضروب الخيال، فكان قرار الطرد، توجّه بعض الموريسكيين إلى المغرب والجزائر، لكن الغالبية توجهت إلى تونس.

لا أريد الخوض فيما لم تنقله إلينا وثائق، لكن المقري يحدثنا عن تعرّض بعض القبائل في الجزائر للموريسكيين، وربما كانت حادثة فردية. أما تونس فقد أحسنت استقبال ضيوفها، وأشرف سيدي أبو الغيث القشّاش بنفسه على توفير سبل الراحة للفارّين بدينهم، وعلى تعليمهم الفقه الإسلامي باللغة الوحيدة التي كانوا يعرفونها: الإسبانية، وأفتى بأن ترجمة كتب الفقه حتى يفهمها الموريسكيون ويعملوا بها “عمل ثوابه عظيم”، كان “تدليل” سيدي أبي الغيث للموريسكيين ملحوظًا، وكان يدافع عنهم بحماس: ألم يتركوا الوطن والمتاع فرارًا بدينهم؟

اختار الموريسكيون مدنًا تقترب معالمها الجغرافية من معالم وطنهم المفقود، وشيّدوا بيوتًا على غرار بيوتهم التي طردوا منها، وظلّت مشاعرهم موزّعة بين حب الوطن الجديد، وحلم العودة إلى وطنهم الأم. حكى لنا تونسي عجوز أن خطبة الجمعة كانت تلقى باللغة الإسبانية ريثما يتعلم الموريسكيون اللغة العربية. إذا أردت أن ترى البيوت الموريسكية، فما عليك إلا أن تتوجه إلى زغوان.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ جمال عبد الرحمن

أستاذ اللغة الإسبانية، كلية الآداب والترجمة جامعة الأزهر