مقالات

القصر الصيفي الصيني

الاستقرار والأمن في أي بلد ومن ثم أي حضارة يتبعه البناء والتعمير والإنتاج، تكلمنا سابقا عن القصر الإمبراطوري الذي يقع في العاصمة بكين، هذا القصر الفسيح الرائع بمناظره الخلابة وتقاسيمه الجميلة المتناسقة، اهتم الأباطرة ببناء القصور وتنسيق الحدائق والمتنزهات على أعلى المستويات لخدمة الشعب وتجديد نشاطه من ناحية، وإرضاء للزوار وراحتهم من ناحية أخرى، ومن ذلك القصر الصيفي وحديقة بَيْهَاي. ومن المعروف عن الصينيين أنهم يحبون العمل ويُقدسونه إلى أبعد مدى، وفي المقابل نجدهم يهتمون بالنزهة والخروج في عطلة نهاية الأسبوع والإجازات والأعياد.

موقع القصر الصيني

يقع القصر الصيفي في بكين في حي هايديان في وسط مجموعة من البحيرات والقصور والحدائق والذي تم بناؤه في أسرة (جين)، وهو مكان للترفيه كبير الحجم واسع الأرجاء رائع الجمال، وهو من الأماكن السياحية المفتوحة للشعب للاستجمام والاسترخاء والهدوء النفسي، يغطي القصر مساحة كبيرة من الأرض تصل إلى (270 فدان) معظمها من الماء، وانضم القصر الصيفي إلى اليونسكو على قائمة التراث العالمي في عام 1998م لاحتوائه على مناظر خلابة وتحف معمارية نادرة ومناظر طبيعية وتناغم بين أجزاء القصر لتوحي بقيمة جمالية ما يشكل صورة فنية مكتملة ومتميزة.

داخل القصر

إن الصين تستغل كل شبر في مكان أثري فتقوم الحكومة بتنظيمه وإعداده وتوفير الخدمات فيه ثم تفتحه للجمهور بضوابط، ففي الداخل تجد أماكن للاستراحة، وصناديق للقمامة كثيرة غير بعيدة وعلى مرأى من أعين الناس، ودورات مياه نظيفة بها المياه والمنظفات والعمال، وتجد الإرشادات المكتوبة على كل شيء، وكل مكان عليه تعريفه حتى الأشجار العتيقة القديمة، كما يوجد مطعم وكافيه وسوبر ماركت للمياه الباردة والمثلجات، وهذا إلى جانب الرسوم الجميلة والحواجز والأشكال الرخامية المنحوتة بعناية فائقة، والجبال والمياه والأماكن البارزة المرتفعة عن الأرض ذات التصاميم الفريدة التي تشبه الجواهر.

في بداية دخولك للقصر وكالعادة في الأماكن الأثرية تأخذ سماعة الرأس -حسب لغتك- تُحدّثكَ بتاريخ ومعنى كل مكان، أو طريق، أو جزء مشيتَ عليه ودخلتَ فيه، فبكل سهولة يقول لك الجهاز كما قال لي عندما دخلتُ القصر: أنتَ الآن تسير في طريق (لِي  بَاي) وهو طريق باسم الشاعر الكبير المعروف في تاريخ الصين، أو أنتَ الآن تدخل في جناح قاعة أو حجرة كذا وتحتوي على كذا وكذا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي القصر بحيرة مائية واسعة (كويمنغ) والتي تغطي معظمه، وقوارب للنزهة فيها لبضع دقائق ربما عشر أو خمس عشرة دقيقة، ومشاهدة معبد الجزيرة، أو مشهدا على المسرح.

تاريخ القصر

يهتم الصينيون بالتقاط الصور التذكارية فهم يحبون الحياة ويُقبلون عليها، وإذا رجعنا إلى الوراء عرفنا أن الصين من أوائل الشعوب في إتقان فن التصوير والنحت سواء على الخشب أو الحجر أو البرونز أو الورق…إلخ. وتنتشر حول القصر فنادق ومطاعم وأماكن للبيع والشراء، فالصيني لا يُضيع وقته سدى دون استفادة، فتجده يعمل في أي عمل يُدر عليه الرزق بغض النظر هل هذا العمل عظيم أو بسيط، يكسب أموالا كثيرة أو قليلة.

يرجع تاريخ القصر الصيفي إلى 300 سنة، لذلك تشعر بالعراقة والزهو وأصالة هذا المشهد الجميل بقاعاته وطرقاته وبنائه، فبعض البنايات فوق الجبال المرتفعة التي تصل إلى 60 مترا تصعد إليه وكأنك تصعد إلى سور الصين العظيم.

إن الأباطرة والنُبلاء والشعب يجمعهم حب الوطن والارتباط به، فكما نجد في القصر الإمبراطوري تمثالا لوحيد القرن الصيني نجده أيضا في القصر الصيفي، وهو تمثال حجري ونحاس، لأن الصينيين وخاصة في القديم يعتقدون بأن وحيد القرن والعنقاء والسلحفاة والتنين حيوانات وطيور ذكية ولهذا أطلقوا عليها اسم الحيوانات الذكية الأربعة. وعلى الرغم أن هذه الحيوانات والطيور خيالية إلا أن الصينيين يرون أنها ترمز إلى بعض المعاني والإشارات، كالطيبة والذكاء والبركة والبهجة والسلامة، والمستقبل المشرق، والخلف الصالح والتكاثر، والسُلطة.

 تمسك الصين بهويتها وثقافتها عبر الأجيال

والصين لم تتأثر هويتها وثقافتها المتوارثة عبر الحقب والأسر لعدة أسباب، منها طبيعة الشعب والتفافه حول حكوماته المتعاقبة، وكذلك بناء الأباطرة لبلدهم في سنوات حكمهم المختلفة، فكل عصر له طابعه الخاص من نمط البناء والتشييد والعمارة والجمال النابع من ثقافتهم فضلا عن إكمال ما بدأه السابقون، فالسابق واللاحق كوّن حضارة الصين وتاريخها العريق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالتراث المعماري واحد من أهم أشكال الحضارة الإنسانية الذي يستهدفه الغزو الفكري والثقافي لتغيير الهوية واستبدالها بهويات أخرى دخيلة، لقد احتفظت الصين بهويتها لأنها تعلم أن احتلال الأفكار من أخطر ما يكون لأنه ينخر في جسد الأمة ويُعجل بنهايتها إن لم يجد التلاحم والاصطفاف كجسد واحد ولُحْمَة مُتراصّة.

إننا في أمس الحاجة -كدول عربية- إلى الحفاظ على تراثنا وموروثنا الحضاري القديم الأصيل بعمل برامج توعوية لتعريف الشباب بتاريخ بلدهم وتثقيفهم، لتكون هذه البرامج والدورات نقطة ضوء وحائط صدّ أمام الدعوات المتلاحقة ليل نهار لزحزحتنا عن معتقداتنا وبُعدنا عن جذورنا وأصولنا الضاربة في الأرض المرتفعة في السماء.

اقرأ أيضاً:

الصداقة في الفِكر الصيني

عيد الربيع الصيني

سور الصين العظيم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة