مقالات

المدينة المُحرّمة

هل يمكننا أن نتخيل ولو للحظة واحدة كيف تدير الحكومات الصينية المتعاقبة هذا البلد الشاسع كثير العدد مختلف القوميات الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والمناخ والجغرافيا على اختلافهما اللذان يشكلان بالطبع الطقس والزراعة؟

المدينة المحرمة

منذ أن وطئت قدمي الصين وأنا أسمع عن المدينة المحرمة أو القصر الإمبراطوري، الذي يقع في وسط بكين، وكانت الأباطرة تحكم الصين منه، وفي المقابل يوجد ميدان (تيان آن مَنْ) الكبير الشهير الذي تقام فيه المراسم والعروض العسكرية الضخمة والأعياد والمناسبات الوطنية، وهو يشبه إلى حد كبير ميدان التحرير في القاهرة، والساحة الحمراء في موسكو، وساحة القصر في مدينة سان بطرسبرغ الروسية، وساحة مدينة البندقية، مع اختلاف المساحة والاستخدام.

قرأت كتاب “مقاصد الأسفار” للأستاذ جمال الغيطاني –رحمه الله– وذكر فيه بسحر أسلوبه صولاته وجولاته ومؤتمراته وندواته ومقابلاته التي كان يمثل فيها مصر كأديب حول العالم ومن ضمنها الصين وبالطبع بكين، ومن المعالم التي ذكرها في بكين المدينة المحرمة أو المقدسة، وبعد قراءتي للكتاب للكاتب المتألق الرائع ووصفه الدقيق وعرضه الممتع وألفاظه المحبوكة، قررت أن أزورها.

والمدينة كانت مقرا لحكم الأباطرة وهي محرمة على المواطنين، فالإمبراطور وأجهزة الدولة والوزراء وكبار الدولة والعسكريين والتخطيط والإدارة.. إلخ كل ذلك يدار من هنا من هذا المكان الكبير الفسيح التاريخي المدهش.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا أردت الزهاب

في البداية إذا أردتَ الذهاب فيمكنك إما أن تذهب وتحجز مباشرة أو عن طريق الإنترنت وهذا أفضل لتأخذ فرصة تجنب الازدحام الشديد يوميا، والحجز يكون بالبطاقة الشخصية للصيني وجواز السفر للأجنبي، وبالطبع يتم تفتيش ذاتي دقيق، ولهم الحق، فهذه المنطقة التي توجد فيها المدينة المحرمة فيها مقرات لبعض المنشآت والأماكن الحيوية مثل: مبنى مجلس الشعب، والمتحف الوطني، وقاعة الشعب الكبرى التي يتم فيها المقابلات للوفود الأجنبية كالرؤساء والدبلوماسيين.

عرفت في اليوم الذي ذهبت فيه أن إحصاء الكمبيوتر لعدد الزائرين في الصباح كان حوالي 10 آلاف، وفي المساء 10 آلاف مثلهم! لا تستغرب فالقصر كبير جدا ويدار بدقة شديدة ونظام دقيق كعادة الصينيين.

وفي البداية توجد صورة الزعيم “ماو تسي تونغ” مؤسس جمهورية الصين الشعبية في مدخل القصر ولا توجد إلا هذه الصورة فقط، فلا تجد مثلا صورة الرئيس في المصالح الحكومية، الصينيون لا يهتمون بالشكل والمظهر بل يهمهم العمل والإنتاج والجوهر، وعند دخولك يمكنك أخذ جهاز للاستماع فهو مبرمَج ويشرح لك بلغتك أثناء تجوالك الأشخاص وتاريخ المكان أو الساحة أو الغرفة التي دخلتها.

مكونات المدينة

نحن الآن في المدينة المقدسة، والتي تتكون من 720 ألف متر مربع، و800 مبنى وهي فعلا كبيرة جدا من الصعب أن تنتهي من زيارتها في يوم أو يومين، لذلك توجد أماكن كثيرة للاستراحة. نظام محكم دقيق له أصالته وعراقته وقوته ومقدرته على التحكم في مفاصل الدولة والبلاد المترامية الأطراف، حتى سور القصر الذي يلفه من أضخم الأسوار التي يمكن أن تراها والذي يبلغ ارتفاعه 10 أمتار فله هيبة الماضي وقوة الحاضر واستشعار للمستقبل.

إنها مدينة متكاملة، فيوجد بها جميع أجهزة الدولة حتى صالات الاحتفال والاستقبال ومنح الأوسمة والاجتماعات، كما أن بها ساحات واسعة تستخدم للتدريبات والعروض العسكرية، أو لإعدام المخالفين للنظام الخارجين عن القانون. وبنظرة تأملية للمباني القديمة فإنها تذكرك بالعمارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية، واليونانية والرومانية، نفس الإحساس والشعور بالجمال والعراقة مع اختلاف نظام الإدارة والمكان والزمان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ففي المدينة المحرمة قصر الإمبراطور وزوجته وأمه والمحظيات، حيث للإمبراطور زوجة رئيسة وكثير من المحظيات، وتوجد أيضا  أماكن العبادة والمكتبات والصيدلية والمكاتب العسكرية، إن في المدينة عالما آخر من الإدارة والتكامل والسياسة والاقتصاد والتجارة والتربية.

وتشتمل المدينة المحرمة على 9999 غرفة وقاعة، ففي الصين القديمة كان الاعتقاد السائد أن الإمبراطور يعتبر نفسه ابن إمبراطور السماء، ولهذا ينبغي أن يكون قصره أقل منه والذي يتكون من 10000 غرفة.

الدقة والنظام داخل المدينة

الدقة والبراعة والتمكن من الصناعة شعار المدينة، وتوجد حديقة القصر الفريدة، ففيها أشجار يعود عمرها إلى مئات السنين من النادر أن تراها إلا في هذا المكان، وأنت تمشي داخل القصر تستنشق الطبيعة والنسيم فلا تشعر بأي شيء مصطنع، الهدوء الرزين والألوان المتناسقة، فيغلب على المباني والقصور اللونان الأحمر والأصفر، فالأصفر يشير إلى الأسر الحاكمة التي احتكرته لنفسها دون العامة، وأما الأحمر فإنه يشير إلى التفاؤل والتماس البركة والفأل الحسن.

هيا بنا نلقي نظرة على الأبواب في داخل القصر، فكل باب يؤدي إلى مكان فالأول باب الصباح، والثاني الظهر، وباب العقل، ويظهر حيوان التنين وأولاده التسعة وهو الكائن الخرافي الذي يرمز للقوة لدى الصينيين.

وأنت في داخل المدينة تتأكد أنه لا مجال للعشوائية فكل شيء بنظام، ترى خزانات للماء تمتلئ عندما ينزل المطر استعدادا لإطفاء أي حريق عند نشوبه، لأنه وبكل بساطة تلاحظ أن معظم العمارة الصينية تقوم على الأخشاب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن الصينيين يحبون حضارتهم، فنجد الواحد منهم يفتخر بها بل ويدعوك لزيارة الأماكن المختلفة للتعرف على المجد الذي قاموا بإنشائه وتشييده بأيديهم وأضافوا إليه جمالا إلى جماله.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

سور الصين العظيم

الصين وأمريكا عملاقان متصارعان

“أهمية نهر سيحون أو سيردريا “

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة