في دردشتنا السابقة “ما العقل؟ (الجزء الأول,الجزء الثاني)“، حاولنا -صديقي القارئ صديقتي القارئة- مقاربةَ معرفةِ معنى العقل، ومعرفة مصادر المعرفة الأولية، ومصادر المعرفة التالية.
وفي هذه الدردشة نتحدث حول موضوع: “العقل والنص“. ونسأل: ما علاقة العقل بالنص الديني؟ أي ما علاقة العقل بالمعرفة الدينية المستمدة من القرآن الكريم والسنة الصحيحة؟
الكلياتُ والجزئياتُ في الدين
في دردشتنا “ما العقل؟ (الجزء الثاني)” قلنا إن المعرفة بأصول العقيدة والشريعة تكون مستمدةً من معرفة تالية، وهذه المعرفة التالية يجب أن تكون معرفةً مؤسسةً على المعرفة الأولية، وعلى ذلك تُؤسس أصولُ الشريعةِ والعقيدةِ على البرهان المنطقي، كما حاول ذلك كثيرٌ من فلاسفة المسلمين.
ولكن ما يتعلق بالأمور الجزئية في الشريعة، أي الأمور المتعلقة بالأوامر والنواهي، التحليل والتحريم، افعل ولا تفعل، ما علاقتها بالعقل البرهاني المنطقي؟ هل تستمد أيضا من معرفة أولية؟ أم تالية؟ أم للعقل طبيعةٌ خاصةٌ في علاقته بهذه الجزئيات؟
العقلُ النظريُ الخالص
توصلنا معا في الدردشة التي عنوانها: “ما العقل (الجزء الأول)”، إلى مقاربة أوَّلية للعقل بأنه: “تلك المعرفةُ الكليةُ، التي نستمدها من مصادر المعرفة الأولية: أوائل الحس وبديهيات العقل، والتي يشترك فيها جميعُ بني الإنسان”. وتلكم كانت مقاربة لتعريف العقل النظري الخالص، أي العقل المنطقي.
إنَّ دفاعَ الفيلسوف عن حجج العقل، التي تعود إلى أوائل الحس وبديهيات العقل، يكون على أساس العقل النظري الخالص باعتباره الطريقَ الوحيدَ ولا طريقَ غيره للوصول إلى اليقين. ذلك العقل الذي هو: يميز بين صفاتِ الموجوداتِ في العالم، والذي إذا اتبعه المرءُ في الاستدلال فسوف يقف على حقائق هذه الموجودات، وسوف يميزُ صفاتِها على ما هي عليه، ويستطيع تمييزَ الأمورِ المستحيلة منها. وسائر ما في العالم عدا الشرائع الدينية الجزئية.
الشرائعُ الدينيةُ الجزئية
هل يمكن أنْ يوجبَ العقلُ أن يكونَ الخنزير حرامًا أو حلالا، أو يكون التيس حرامًا أو حلالا، أو أن تكون صلاة الظهر أربعًا وصلاة المغرب ثلاثًا، أو يوجب عليك أن تطوفَ بالكعبة سبعا أو أقل أو أكثر من سبع؟
الإجابةُ المعقولةُ المتيقنة هي: هذا ما لا مجال للعقل النظري الخالص فيه، لا في إيجابه، فيقول هذا حلال، ولا في المنع، فيقول هذا حرام، وإنما في العقل “الفهم” عن الله تعالى لأوامره.
ومن ادعى أن العقل يحلل ويحرم، فهو بمنزلة من أبطل العقلَ جملةً، لأنه يريد أن يُدخل في مجال العقل ما ليس من اختصاص العقل، لأن هذا العقل ليس من وظيفته أن يحللَ أو يحرمَ في الشرائع، فالشرائعُ الجزئيةُ غيرَ خاضعةٍ للعقل النظري الخالص، وإنما تخضع لنوعٍ آخر من العقل دعنا نسميه “العقل العملي”.
العقلُ العمليُ الخالص
العقل العملي هو -ببساطة- قوةُ النفسِ التي تحفزُنا وتدفُعنا إلى ما نختاره من الجزئيات لأجل غايةٍ، مظنونةٍ أو معلومةٍ، وهذه قوة محركة وليست من جنس العلوم، وإنما سميت عقليةً لأنها مؤتمرةٌ للعقل مطيعةٌ لإشاراته بالطبع، فكم مِنْ عاقلٍ يعرف أنه مُستضرٌ باتباع شهواته ولكنه يعجزُ عن المخالفة للشهوة، لا لقصور في عقله النظري، ولا لفتور هذه القوة التي سُميت العقلُ العملي، وإنما تقوي هذه القوةُ بالرياضةِ والمجاهدةِ والمواظبة على مخالفة الشهوات، واتباع قواعد السلوك والأخلاق، من استعمال الطاعات والفضائل، واجتناب المعاصي والرذائل.
إذن العقل النظري يتوقف دوره -وهذا هو المعقول- عند منطقة التحليل والتحريم، مجال اختصاص النص الديني وحده.
التحليلُ والتحريم
فالعقل النظري ليس في قدرته، ولا هو من دوره، وخارج طبيعته، أن يقررَ ما إذا كان لحم الخنزير حلالا أم حرامًا، وما إذا كانت صلاة الظهر أربعًا وليست خمسًا أو ثلاثًا إلخ. هل معنى ذلك أن العقل النظري الخالص لا علاقة له، من قريب أو من بعيد، بمسائل الشريعة الجزئية؟
هذا هو موضوع دردشتنا القادمة -بإذن الله- وعنوانها: “العقل والنص (2) المعقول الديني”.
اقرأ أيضاً:
النص والعقل، يتكاملان أم يتعارضان؟
هل أنبأنا القرآن الكريم حقا بوجود الثقوب السوداء؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.